IMLebanon

فرنسا أقنعت السعودية بالعودة إلى لبنان

كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:

الواضح انّ لبنان يكاد يختنق بسبب الجمود القاتل الناجم عن التعثر الذي يحوط بمفاوضات فيينا. هي ليست المرة الاولى التي يدخل فيها لبنان مربّع المراوحة الصعبة، لكن الجديد، انّ بلاد الارز التي تحتضر بسبب الانهيارات الاقتصادية والمالية، لا يبدو سهلاً عليها استهلاك الوقت تحت وطأة الكوارث التي تعصف بها.

كان من الممكن للمبادرة الفرنسية ان تخفف من وقع الآلام التي يمرّ فيها لبنان، لكن «براءة» الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من جهة، والتشابك الحاصل في العمق بين الأطراف الاقليمية و«ثعالب» الطبقة السياسية اللبنانية المهتمين بمصالحهم الذاتية كأولوية، من جهة ثانية، أجهضا هذه الآمال.

وخلال زيارة ماكرون الاخيرة للسعودية جرت محاولة فرنسية لإحداث ثغرة في جدار العلاقات اللبنانية ـ الخليجية، تحقق بعض التقدّم، لكنه بقي طفيفاً ولم يصل الى حدود العودة الى الواقع السابق. وقد يكون الإنجاز الفعلي يتعلق بالنجاح في إقناع القيادة السعودية أنّ مصالحها تقضي بالعودة الى لبنان. فالانسحاب منه جعل خطوط التماس بين السعودية وايران تصل الى العمق السعودي وليس في اليمن فقط، وبالتالي فإنّ العودة الى المعادلة اللبنانية ستشكّل حزام أمان للعمق السعودي.

من بعدها حضر لبنان في كل البيانات الختامية لجولة ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان الخليجية.

وتزامن ذلك مع زيارة الوزير السابق ملحم رياشي موفداً من «القوات اللبنانية» والوزير السابق وائل ابو فاعور موفداً من «الحزب التقدمي الاشتراكي» الى السعودية. لكن السؤال: هل هنالك امكانية فعلاً لاستعادة التوازن مع «حزب الله» في الساحة اللبنانية وسط الواقع الصعب الذي يعيشه الشارع السنّي؟ ورغم عدم صدور اي موقف رسمي من «حزب الله» تعليقاً على البيان الفرنسي ـ السعودي في ختام زيارة ماكرون، الّا انّ هناك إشارات انزعاج نقلتها شخصيات سياسية على علاقة تحالفية مع «حزب الله».

وفي الوقت نفسه، لا بدّ انّ الرئيس اللبناني ميشال عون كان مرتاباً من تجاهل ماكرون له وعدم اتصاله به كما كان وعد، والاكتفاء بإرسال السفيرة الفرنسية. وفيما جرى إعطاء تفسيرات عدة، الّا انّ مصادر معنية توقعت ان يتصل ماكرون بعون مع حلول الاعياد، ما سيشكّل مناسبة للتطرق الى الوضع اللبناني وتوضيح الامور. لكن الجديد المهم، انّ تواصلاً فرنسياً حصل مع الاميركيين خلال الايام الماضية، وتركّز حول الملف اللبناني. وفيما لم تصدر أي أجواء حول العناوين التي جرى التطرق اليها، توقعت مصادر مطلعة ان تتمّ ترجمة ذلك بعد عودة السفيرة الفرنسية في لبنان، والتي غادرت الى باريس لتمضية عطلة الاعياد.

لكن ثمة حقائق أساسية لا بدّ للمسؤولين اللبنانيين من أخذها في الاعتبار، فأوروبا التي تتحرّك فرنسا بإسمها في لبنان والشرق الاوسط، غارقة في جملة استحقاقات وازمات قد تكون هي التي استدعت دفع السعودية للعودة الى لبنان، ولاستعادة موقعها السياسي في المواجهة مع ايران للتوازن معها. فأوروبا تعاني من الأسعار المرتفعة للنفط، في وقت تنتهج روسيا سياسة جديدة هجومية تجاهها. وموسكو التي تقرأ بتمعن التشابك الحاصل على مستوى السياسة الدولية، تسعى لتوسيع نفوذها في اتجاه اوروبا التي تحاول صدّها من خلال اوكرانيا. وكذلك، فإنّ المانيا العاصمة الاقتصادية لأوروبا، تعيش مرحلة انتقالية مع رحيل انجيلا ميركل ووصول اولاف شولتس الاشتراكي الديموقراطي، مع ما سيعني ذلك من تبدّل في سياستها.

والاهم أنّ ماكرون هو على قاب قوسين من مرحلة الإنشغال الكامل بحملته الرئاسية الصعبة، وسط بروز اسماء قادرة على تهديد فرصة التجديد له، او على الاقل ستجعل حملته الانتخابية صعبة جداً.

وفي الوقت نفسه، تبدو ادارة الرئيس الاميركي جو بايدن غارقة حتى اذنيها في مشكلاتها الداخلية الكثيرة، والتعثر الذي يصيب مفاوضاتها النووية غير المباشرة مع ايران. صحيح انّ الاوساط الديبلوماسية المعنية تقول إنّ صورة المفاوضات الحقيقية ليست سلبية بالمقدار الذي تظهر عليه الامور في المواقف والتصريحات الرسمية، وهي لا تزال تراهن على حتمية الاتفاق في نهاية المطاف، إلّا أنّ رهان واشنطن على ولادة الاتفاق تعثر وتأجّل اكثر من مرة، وهو ما ينعكس تعثراً في الانطلاق في تطبيق استراتيجية احتواء التمدّد الصيني على الخريطة العالمية. فالديبلوماسية الصينية المعروفة بإسم «مخالب الذئب» تواصل تقدّمها من خلال استثمارات كبيرة في اماكن استراتيجية مثل افريقيا واميركا الجنوبية، وهي ايضاً تعزّز وزنها الديبلوماسي في الأمم المتحدة.

وفي المقابل، فإنّ الدول المجاورة للصين تقوم بتعزيز اوضاعها العسكرية. فاليابان مثلاً زادت ارقام موازنتها الدفاعية، وتعمل على تسريع عمليات شراء منصّات الأسلحة الكبيرة مثل الطائرات المقاتلة المتطورة والصواريخ المتوسطة المدى. ويطالب بعض السياسيين اليابانيين بمضاعفة الإنفاق الدفاعي الى 2 في المئة من الناتج الإجمالي، بما يتماشى مع معايير حلف «الناتو».

واستراليا كذلك في طريقها لإنفاق 187 مليار دولار اضافية على جيشها خلال العقد المقبل، وهذا ما يوحي بوجوب إغلاق ملف الشرق الاوسط، لكي تتفرّغ واشنطن للنزاع المتصاعد في تلك المنطقة من العالم.

ومن البديهي الاستنتاج، أنّ الصين وانسجاماً مع مصلحتها، تعمل على تشجيع ايران وربما اغرائها، للتسويف في مفاوضاتها النووية، والعمل على علك الوقت لإطالة أمد المفاوضات، او ربما لعدم الوصول الى مرحلة التفاهم. وفي المناسبة، فإنّ الديبلوماسية الايرانية مشهود لها بالبراعة في استهلاك الوقت وابتداع الحجج والأعذار، خصوصاً انّ واشنطن تريد تقليم بعض اظافر ايران في الشرق الاوسط، من اجل تثبيت توازن مناسب. وغني عن القول، إنّ ابرز مخالب ايران في المنطقة هو «حزب الله»، وهو ما يفسّر الى حدّ بعيد التشابك الحاصل في العمق بين النزاع العريض الدائر في المنطقة والأزمات الخانقة التي تعصف لبنان. مع الإشارة الى انّ اوروبا التي كانت تنظر الى الصين على أساس انّها فرصة اقتصادية، باتت الآن تنظر اليها بنحو متزايد على أنّها تحدٍ استراتيجي، وفق ما بات يعتقده نحو ثلثي الاوروبيين. ولا حاجة للاستنتاج أنّ التفاهم الاميركي مع الاوروبيين هو السبب الحقيقي لإغلاق اوروبا في وجه الصين، في مقابل مكاسب عدة، منها حماية اوروبا من روسيا، ومنحها دوراً في الشرق الاوسط من المفترض ان تكون الساحة اللبنانية احدى قواعده. لكن الانشغال الاوروبي خلال الاشهر المقبلة، قد يسمح للبعض بالعبث في الساحة اللبنانية تحت عنوان مواجهة ايران، او بعبارة اوضح أغراق «حزب الله» بمزيد من المشكلات. ومن هذه الزاوية لا بدّ من النظر الى انفجار مخزن الذخيرة التابع لحركة «حماس» في مخيم «برج الشمالي» قرب مدينة صور، وما اعقبه في اليوم التالي من اشتباك ادّى الى سقوط عدد من الضحايا والجرحى.

فالتقديرات الأولية ترجح فرضية العمل الأمني، وأنّ ثمة رسائل الى «حزب الله» من خلال حركة «حماس»، وهو ما يدفع للخشية من احتمال تكرار المشهد الساخن في مخيمات فلسطينية اخرى. رغم انّ التواصل الذي حصل من جانب القنوات الأمنية الرسمية اللبنانية، تضمن تحذيرات حازمة بعدم دفع الوضع في اتجاه الفوضى. حتى أنّ خالد مشعل الذي سيزور المخيم، فهم أنّ المسؤولين اللبنانيين المنزعجين جداً مما حصل، يفضلون عدم لقائه، وهذا ما دفعه الى عدم طلب مواعيد رسمية.

الصورة لا تبدو مشرقة في المرحلة الحالية، فيما التركيز على الانتخابات النيابية ونتائجها والتوازنات الجديدة التي سيرسو عليها المجلس النيابي المقبل.