IMLebanon

من غوتيريش إلى ماكرون… هذا ما ينتظره اللبنانيون

كتب جورج صدقه في “الجمهورية”:

لم يُعلّق اللبنانيون آمالا على زيارة الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس لبنان. جاء، زار، صرّح، واعتبر في النهاية ان حلّ المشكلة هي في أيدي اللبنانيين أنفسهم. انها عودة الى أسطوانة قديمة حين كانت الدول تريد أن تغسل يديها من الأزمة اللبنانية.

لم يُصب اللبنانيون بأي خيبة من هذه الزيارة اذ انهم في الأساس لم ينتظروا شيئا منها، وان كانت تصريحاته في بعض منها حملت توبيخاً للمسؤولين اللبنانيين كقوله في بعبدا: «أنا أحثّ القادة اللبنانيين على أن يستحقوا شعبهم (…). لا يملك القادة السياسيون في لبنان، عند مشاهدة معاناة الشعب اللبناني، الحق في الانقسام وشلّ البلد». وأمل بدوره بأن تحمل الانتخابات المقبلة التغيير المطلوب.

نعرف كلنا أن خطاب غوتيريس هو من باب التمنّيات وأن كلامه لا قيمة عمليّة له على أرض الواقع السياسي اذ لا ترجمة له في أي مكان. وجلّ ما يمكن أن يقوم به أمين عام الأمم المتحدة هو تقديم بعض المساعدات الإنسانية، يذهب الجزء الأكبر منها الى اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين أكثر منها الى اللبنانيين الذين باتوا في حال تعاسة لا تقلّ عن ضيوفهم.

ما يزعج اللبنانيين هي هذه الخطابات التي لا تقدّم شيئا، هي هذه النصائح الخبيثة المبطّنة في وقت بات العالم يعرف أن المنظومة السياسية في لبنان نهبت ثروات البلد وثروات الشعب وتتمسّك بالسلطة، فيما يتحاشى الجميع اتخاذ تدابير ضد هذه المنظومة، رغم ان الشعب اللبناني قال كلمته في انتفاضة 2019 طوال أشهر بقي خلالها في الشارع وتعرّض لكل أنواع القمع والتهديد والاستدعاءات وإطلاق النار على عيون الناشطين منه.

بات العالم بأجمعه يعرف مأساة الشعب اللبناني المتجسّدة في طبقة سياسية فاشلة وفاسدة ومرتهنة. بات وضع لبنان يُدرّس في الجامعات والمدارس كنموذج عن فشل الدولة، وكنموذج كيف يمكن لمسؤولين سياسيين ان يقودوا شعبهم الى الجوع والذلّ والهجرة. كنّا في الماضي ندرّس في الجامعات النموذج الشيوعي، السوفياتي تحديدا، كيف أنه سقط لأنه فشل في تأمين الأمن الغذائي لشعوبه بسبب فشل آليات النظام السياسي الاقتصادي القائم. فجاء النموذج اللبناني كمثال على افلاس الدولة وتجويع الشعب في بلد مزدهر من خلال السرقة والفساد وانعدام المحاسبة وسقوط القضاء بيد السياسيين.

لكن إذا كان هناك من خيبة عند الشعب اللبناني فهي من الرئيس الفرنسي فرنسوا ماكرون بعد الآمال الكبيرة التي علقوها على حركته السياسية في زيارتين متتاليتين للبنان والثالثة الى العربية السعودية قبل أيام.

في زيارته الأولى بعد انفجار المرفأ أطلق وعودا كبيرة ونزل الى الشارع لتخفيف وقع المأساة على اللبنانيين الذين استقبلوه كبطل بديلاً من قادتهم السياسيين الذين لم يجرؤ أي واحد منهم على النزول لملاقاة الناس المفجوعين وتفقّد الاضرار ومواساتهم. كانت تصريحات الرئيس الفرنسي حينها متقدمة وواعدة. فقد طالب المسؤولين بإجراء إصلاحات سريعة، وهدّد بتجميد أموالهم في بنوك فرنسا إذا عاد في أيلول ولم يبدأوا في عملية الإصلاحات. «أنتظر من السلطات اللبنانية أجوبة واضحة حول تعهداتها بالنسبة لدولة القانون والشفافية والحرّية والديموقراطية والإصلاحات الضرورية وإلا فسيتحمّلون مسؤولياتهم». كما دعا من بيروت إلى تحرك دولي عاجل لمساعدة المتضررين وطالب بإجراء «تحقيق دولي مفتوح وشفاف» لكشف مسبّبات الانفجار.

ما جعل اللبنانيين يأملون منه خيرا أن ماكرون تخطّى خلال هذه الزيارة الأعراف الدبلوماسية في لهجة عالية ضدّ الطبقة السياسية ثم جولته في شوارع الجميزه المنكوبة حيث عانق الناس خارقا مبدأ التباعد الاجتماعي ومبدأ السلامة الأمنية. أعطت تصريحاته حينها انطباعا أنه سيقوم بمبادرة ما بحجم المأساة. أعطت الامل بأن محاسبة هؤلاء المسؤولين آتية، وان فرنسا ستقوم بذلك.

لكنه عاد في أيلول وإذ لا من حكومة ولا من إصلاحات ولا من محاسبة. بل استمرار المراوغة والمراوحة والكيديّة. وجاء تحركه الاخير في زيارته السعودية في أوائل الشهر الحالي وقد نشط لانتزاع استقالة وزير الاعلام جورج قرداحي ليقدمها هديّة الى ولي العهد السعودي.

انتظر الجميع نتيجة إيجابية للبنان، فإذا هي من جديد بيانات وتصريحات جاءت تماهياً مع سياسة المملكة ودعما لشروطها ومطالبها في لبنان، اذ تضمّن البيان المشترك توافقا فرنسيا سعوديا على «التصدي للأنشطة الإيرانية المزعزعة للأمن في المنطقة وضرورة قيام الحكومة اللبنانية بإجراء الإصلاحات، حصر السلاح في مؤسسات الدولة الشرعية، الالتزام باتفاق الطائف المؤتمن على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي في لبنان، والا يكون لبنان منطلقا لأي اعمال إرهابية تزعزع امن واستقرار المنطقة ومصدرا لتجارة المخدرات».

هذه المبادئ، على أحقيّتها وأهمّيتها، تبقى مجرد تمنّيات في غياب أي امكان لتطبيقها. الأهمّ منها في زيارة ماكرون العقود التجارية وعقود التسلح التي تمّ توقيعها.

بعيدا من الخطابات الدبلوماسية، يطالب اللبنانيون ماكرون -كما غوتيريس- بأن يمارس ضغوطا حقيقية على الطبقة السياسية لا أن يقوم بتغطيتها كما حصل حتى الان. لا يريد اللبنانيون مساعدات مادية من فرنسا، بل أن تساهم بكشف مصير الأموال المحوّلة من لبنان الى مصارفها، بأن تكشف ثروات السياسيين اللبنانيين المكدّسة عندها والمستثمرة على أراضيها، كما وعد ماكرون. كل ما عدا ذلك يكون من باب الكلام الهوائي. ان مبادرة من هذا النوع تقوم بها فرنسا لدى حلفائها الغربيين من شأنها تغيير كل المعطى السياسي في لبنان. انها أموال الشعب اللبناني، ولقد سبق لفرنسا أن صادرت أموالا لحكام أجانب متّهمين بالفساد كمسؤولين فيليبينيين سابقين وأفارقة وبالأمس رفعت الأسد.

لكن مع الأسف، ان حركة الرئيس ماكرون حيال لبنان تبدو من باب التسويق السياسي على أبواب الانتخابات الرئاسية الفرنسية في أيار المقبل كي يكسب صورة رئيس دولة ناشط ويسوّق نفسه رئيسا فاعلا. وحقيقة الوضع ان لبنان لم يعد له من أهمية في ميزان السياسة الخارجية الفرنسية بعد تراجع أهمية الورقة الفلسطينية في نزاع الشرق الأوسط وتراجع دور لبنان كعاصمة الثقافة والفكر في العالم العربي. عند باقي الأوروبيين والولايات المتحدة يبدو موقع لبنان أسوأ من هذا.