IMLebanon

هل لبنان رهينة مفاوضات الإتفاق النووي الإيراني؟

كتب السفير مسعود المعلوف في “الجمهورية”:

الإتفاق النووي الذي عقد بين إيران والدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن زائد ألمانيا في تموز 2015 أيام الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ونائبه جو بايدن، كان مقتصراً على نشاطات إيران النووية، من دون التطرق الى الصواريخ الباليستية الإيرانية ولامتدادات إيران في المنطقة، خصوصاً في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وقد أشاد أوباما وبايدن آنذاك بهذا الإتفاق على أنه سيضع حداً لطموحات إيران النووية.

ولكن عندما أعلن دونالد ترامب ترشحه للرئاسة في ذلك العام، ركز كثيراً في حملته الإنتخابية على انتقاد هذا الإتفاق معتبرا إياه أسوأ اتفاق توقّعه بلاده، واعدا بسحب الولايات المتحدة منه في حال انتخابه رئيسا، وهذا ما فعله في أيار عام 2018، ما اعتبر صفعة لإدارة أوباما ولصدقية الولايات المتحدة في اتفاقاتها الدولية.

لذلك عندما ترشح بايدن للرئاسة عام 2020، جعل من عودة الولايات المتحدة الى الإتفاق النووي إحدى أولويات حملته الإنتخابية، وبعد تسلّمه الرئاسة بفترة قصيرة، أعلن عن رغبته في التفاوض مع إيران لهذه الغاية. في تلك الأثناء، كانت إيران قد شعرت أنها في حلّ من التزاماتها الواردة في الإتفاق وعاودت تخصيب اليورانيوم معلنة أن برنامجها النووي هو لغايات سلمية، كما رفضت الجلوس للتفاوض المباشر مع الولايات المتحدة بل عن طريق الوسطاء الأوروبيين. ومن هذا المنطلق بوشرت المفاوضات في فيينا في نيسان من هذا العام. ولكن قبل التفاهم على البدء بالمفاوضات في فيينا، حاول بايدن إدخال موضوع صواريخ إيران الباليستية وامتدادات إيران في المنطقة ضمن برنامج التفاوض، فرفضت إيران ذلك رفضا قاطعا مؤكدة أن الإتفاق الأساسي الذي خرجت منه الولايات المتحدة لم يلحظ هذه المواضيع، والتفاوض ينبغي أن يكون فقط على عودة الولايات المتحدة الى الإتفاق، ورفع العقوبات الأساسية التي كان ترامب قد أعاد فرضها عند انسحابه من الإتفاق، وكذلك العقوبات الإضافية القاسية التي فرضها لاحقاً. لقد عقدت حتى الآن 8 جولات من المفاوضات في فيينا، 6 جولات في عهد الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، ثم توقفت المفاوضات لبضعة أشهر بناء على طلب إيران إثر انتخاب الرئيس ابراهيم رئيسي، وأعيدت المفاوضات في الجولة السابعة بوفد إيراني جديد في أواخر تشرين الثاني.

مع أن امتدادات إيران في المنطقة وصواريخها الباليستية تشغل كثيرا الإدارة الأميركية، إلا أن معرفة إيران لأولوية بايدن لتنفيذ وعده الإنتخابي في العودة الى الإتفاق النووي لأسباب سياسية داخلية بغية إلغاء قرار ترامب التعسفي من جهة، ولاستعادة بعض الصدقية الدولية للولايات المتحدة من جهة ثانية، جعلت إيران تتشدد في رفض إدخال أي موضوع في المفاوضات الى جانب الموضوع النووي البحت. لا ينكر أحد تدخّل إيران القوي والفعال في كل من اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وتأثيرها القوي في مجريات الأمور في هذه الدول على مختلف الصعد، وما يحصل في لبنان خير دليل على ذلك، سواء بالنسبة الى عدم تمكن الحكومة اللبنانية من الإجتماع، أو بالنسبة الى القرارات الأساسية في الدولة التي لـ»حزب الله» الكلمة الفصل فيها. يهمّ الولايات المتحدة، بلا أدنى شك، تقليص النفوذ الإيراني في هذه الدول قدر المستطاع. فالسعودية، الغارقة منذ سنوات في حربها مع الحوثيين في اليمن المدعومين من إيران، هي الحليف الكبير للولايات المتحدة في الخليج. ومع أن البترول السعودي لم يعد له أهمية كبرى للولايات المتحدة بالذات كما كان الوضع في السابق، إنما واشنطن تعتمد على السعودية لتأمين البترول لحلفائها مثل اليابان وكوريا الجنوبية والدول الأوروبية، خصوصا في ظل التهديد الروسي غير المباشر بوقف امداد ألمانيا وسواها من الدول الأوروبية بالغاز الروسي عبر أنابيب «نوردستريم 2» نتيجة للأزمة الأوكرانية، ومن هذا المنطلق يهمّها إيقاف التدخل الإيراني في اليمن وإنهاء هذه الحرب. ad أما في العراق حيث خسرت الولايات المتحدة كثيرا في الأرواح والمال منذ الحرب التي قادتها على هذا البلد عام 2003، فإنّ الإدارة الأميركية، سواء من الديموقراطيين أو الجمهوريين، لا تستطيع الإنسحاب التام من العراق من دون تحقيق انتصار ما، ولو نسبي، بعد تراكم الخسائر، وهذا الإنتصار، بالنسبة الى الأميركيين، يكمن في تقليص النفوذ الإيراني في هذا البلد، وقد بدأ يظهر بعض النتائج بعد الإنتخابات العراقية الأخيرة. وفي سوريا أيضا، حيث هنالك وجود عسكري أميركي محدود، تسعى الولايات المتحدة الى إضعاف النفوذ الإيراني الذي ساهم، الى جانب التدخل الروسي العسكري المباشر، في استمرار نظام الرئيس بشار الأسد الذي كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها يَجهدون لإسقاطه، وقد تجد الإدارة الأميركية نفسها مضطرة الى التنسيق مع روسيا في هذا المجال، على رغم الخلافات القوية القائمة حالياً بين هاتين الدولتين، كون روسيا أيضا لها مصلحة في تخفيف التدخل الإيراني في سوريا، ويظهر ذلك من خلال غَض روسيا الطرف عن عمليات القصف الجوي التي تقوم بها إسرائيل بين الحين والآخر لمواقع عسكرية سورية فيها وجود إيراني. أما في لبنان، فإن الولايات المتحدة قد صنّفت «حزب الله»، المرتبط ارتباطا وثيقا بإيران، منظمة إرهابية ذات قدرة قوية على إلحاق أضرار وخسائر جمة بإسرائيل في حال نشوب حرب مع إيران إذا فشلت مفاوضات الإتفاق النووي، وهنا تكمن العلاقة المباشرة بين هذه المفاوضات ومستقبل الوضع في لبنان. ad لا بد هنا من التوضيح، إذا ما نظرنا الى جوهر المفاوضات الجارية حاليا في فيينا، أن الخلاف الإيراني ـ الأميركي ليس شديد التعقيد. فالإتفاقية الأساسية الموقعة عام 2015 واضحة جدا إذ أنها كانت تضع حدا للتطور النووي الإيراني بمراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، على أن ترفع الولايات المتحدة العقوبات عن إيران، ولذلك فإنّ المطلوب حالياً هو مجرد العودة الى اتفاق سبق التفاوض والتوافق عليه. ولكن العقبة الكبرى في إعادة إحياء الإتفاق تكمن في من سيتخذ الخطوة الأولى إذ تطالب إيران برفع العقوبات كلياً قبل أن تعود الى التزاماتها، بينما تطالب الولايات المتحدة إيران بوقف التخصيب أولاً والسماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بالعودة مجددا لمراقبة النشاط النووي الإيراني قبل أن يتم رفع اي عقوبات عنها. يقول بعض المتابعين للموضوع انه، لو صدقت النيّات لدى الفريقين، لكان من الممكن الإتفاق من دون تأخير على أن يقوم كل من الفريقين بخطوة يقابلها الفريق الثاني بخطوة مماثلة حتى الوصول الى الحل النهائي للمسألة في خلال أسابيع قليلة، ويرى كثيرون صعوبة في إنجاز هذه المفاوضات بحل يرضي الجميع، معتبرين أن إدارة الرئيس الإيراني السابق كانت معروفة باعتدالها ومرونتها ولم تستطع، بعد 6 جولات من المفاوضات، الوصول الى النتيجة المرجوة، فكيف سيتم إنجاز هذه المفاوضات في عهد الرئيس الإيراني الحالي ابراهيم رئيسي، المعروف بمواقفه المتشددة تجاه الغرب عموما والولايات المتحدة تحديداً، خصوصا بعد أن تراجع الوفد الإيراني عن التقدم الذي كان قد حصل في الجولات الست الأولى؟ ad لا شك في أن بايدن يهمه كثيرا إعادة إحياء الإتفاق، ولكنه لا يستطيع أن يقبل بالشروط الإيرانية لكي لا يعزز الإنطباع السائد حاليا بأنه رئيس ضعيف، خصوصا قبَيل الإنتخابات التشريعية التي ستجري هذا العام، حيث لا يستطيع أن يخسر الأكثرية الضئيلة جدا التي يتمتع بها حالياً حزبه في الكونغرس، وهو يأمل، في حال نجحت مفاوضات فيينا، ان توافق إيران في مرحلة لاحقة على إجراء مفاوضات على سائر الأمور العالقة. ويرى البعض، من جهة ثانية، أنّ إيران تتشدد في شروطها وتسعى لكسب الوقت حتى تتمكن من الوصول الى تصنيع السلاح النووي لأنّ هذا هو أحد أهدافها الذي لا يمكن أن تتراجع عنه. وهكذا يبدو مستقبل لبنان مرتبطا الى حد بعيد بما ستؤول اليه مفاوضات الإتفاق النووي التي ستحدد مستقبل العلاقة بين إيران والولايات المتحدة والتي يتوقف عليها كثير من التطورات في المنطقة. ففي حال نجحت المفاوضات وأُعيد إحياء هذا الإتفاق، وهذا الأمر ليس مضموناً على ما يبدو، سترفع الولايات المتحدة معظم العقوبات المفروضة على إيران، وستُفرج عن حساباتها المجمدة في عدد من الدول الغربية، ما سيسمح للدولة الإسلامية بتعزيز دعمها لـ»حزب الله» ويزيد من تأثيرها ليس في لبنان فحسب، بل في المنطقة عموما، أي أنه سيكون لهذا الحزب سلطة أكبر على قرارات الحكومة اللبنانية ومواقف لبنان عموماً. ad وفي حال فشلت المفاوضات ولم يتم التوصل الى اتفاق مع إيران، خصوصا أن الولايات المتحدة قد أعلنت أخيرا ضرورة بَت الموضوع في الأسابيع القليلة المقبلة، يصعب تصور حصول قبول أميركي وأوروبي وإسرائيلي بإيران نووية، وقد هددت إسرائيل مراراً بأنها لن تسمح إطلاقا بذلك، كما أعلن وزير الخارجية الأميركي أثناء زيارته لإسرائيل منذ أسبوعين أن كل الإحتمالات واردة في حال عدم توقف إيران عن تخصيب اليورانيوم واستمرارها في منع خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية من مراقبة مختبراتها في صورة كاملة. وهذا يعني احتمال قصف اسرائيل مفاعلات إيران النووية بدعم أميركي، وفي هذه الحال ستحرّك إيران ذراعها في لبنان لتوجّه قذائف وصواريخ «حزب الله» على إسرائيل مع ما يمكن تَوقّعه من ردات فعل إسرائيلية على لبنان. فلبنان على ما يبدو واقع بين احتمالين، أحدهما سيئ والآخر أسوأ، إذ ان حصول اتفاق أيراني-أميركي من شأنه أن يزيد من سيطرة «حزب الله» في لبنان، كما أن عدم الوصول الى اتفاق قد يزيد من احتمالات حرب إسرائيلية -إيرانية مع ما سيكون لها من عواقب مدمرة على لبنان. على هذه الخلفية، ورغبة في إخراج لبنان من هذا المأزق، تسعى منظمات أميركية ـ لبنانية الى إقناع إدارة بايدن أن يكون هنالك سياسة أميركية تجاه لبنان مستقلة بعض الشيء عن سياستها العامة للشرق الأوسط، بحيث تحصل ضغوط عليه وعلى الأمم المتحدة لتطبيق القرار 1701 بحذافيره، ولمراقبة الحدود اللبنانية ـ السورية بفعالية أكبر لكي لا تزيد ترسانة «حزب الله» وتقوى أكثر مما هي عليه الآن، مع تهديدات جدية لمسؤولين لبنانيين بعقوبات قاسية في حال استمرارهم في تقديم الدعم السياسي والغطاء المعنوي للحزب. ad وفي الختام، لا بد من التأكيد ان ما يساعد لبنان على عدم وقوعه رهينة تطورات خارجية هو توافق مكونات المجتمع اللبناني على حد أدنى من التفاهم في ما بينهم على القضايا الأساسية للعيش الواحد، سواء لجهة عدم استقواء أي فريق بالخارج لتعزيز موقعه داخليا، أو لجهة عدم التهديد بالسلاح للحصول على مكتسبات سياسية وغير سياسية، وكذلك التوافق على مسلمات أساسية بحيث لا يؤيد فريق من اللبنانيين هذه الدولة أو تلك بينما يخاصمها أو يعاديها فريق آخر. وطالما بقي الأفرقاء اللبنانيون منقسمين بعضهم على بعض، ويدين كل فريق منهم بالولاء لدولة خارجية، سيبقى لبنان عرضة للأزمات وضحية لأية اهتزازات قد تحصل خارج حدوده.