IMLebanon

اللبنانيون مهدّدون بـ”اكتئاب جماعي”… فماذا عن الانتحار؟

كتبت زيزي اسطفان في “الراي” الكويتية: 

لبنان يختنق بالانهيار الشامل والأعتى الذي ضرب بلداً منذ 1850، وشعبه يصارع انهياراتٍ عصبيةً ونفسيةً ترشّحه لِما يشبه الـ «انتحار الجَمَاعي» بعدما أمعنت السلطات في «مسارٍ انتحاري» بدت معه البلاد برمّتها مزنّرة بـ «حزام ناسف» من الأزمات في الداخل ومع الخارج.

لبنان «الحياة» والليل الذي لا ينام، لبنان «بلد العيد»، لبنان «طائر الفينيق» الذي لا يقوى عليه رماد ولا ركام… هذا اللبنان تحوّل حُطاماً وناسه مُوزَّعون في غالبيتهم الساحقة بين أكثر بؤساء العالم على سلّم الفقر وأخواته، وبين أكثر تعساء الأرض على مقياس التوتر والحزن (حل لبنان الثالث عالمياً والثاني عربياً وفق تصنيف مؤسسة «غالوب» لـ 2020 على لائحة الدول الأكثر حزناً).‏

هي أزماتٌ أخطبوطية تتقاذف اللبنانيين منذ عامين، انسحقت معها ليرتهم وحوّلتْ حياتَهم أشبه بـ «يومياتٍ في جهنّم» يتقلّبون على جمر فواجعها الحارقة، في المأكل والمشرب والدواء والضوء والتعليم والطبابة، وزادها «لهيباً» الانفجارُ الهيروشيمي في مرفأ بيروت (4 آب 2020) الذي فجّر منسوب الخوف والقلق والغضب والحزن ومستوياته في نفوسٍ كانت هبّت في تشرين الأول 2019 في ثورةٍ سرعان ما خفتت ولم يبقَ منها إلا ثوار خلف جدران البيوتات وكأنهم «قنابل موقوتة» لم يكن ينقصها إلا «قضبان كورونا» لتزداد «احتقاناً».

لبنان كئيب، وشعبه مكتئب. الوطن يُنحَر وأبناؤه متروكون للموت أحياء أو رمياً بانتحارٍ كأنه «خلاص»، فيما قطرات الأمل تتلاشى وجرعات الألم الزائدة تنهش… الأجساد والنفوس.

في ليلة الضوء، ليلة الميلاد، أطبقت العتمة على أحد العناصر في قوى الأمن الداخلي الذي أقدم على قتل نفسه في بلدة المنية الشمالية تاركاً وراءه زوجة وأولاداً، ليضاف اسمه إلى لائحة الأسى التي باتت تفجع عائلات كثيرة في لبنان يلجأ أفراد منها إلى الانتحار هرباً من الموت ألف مرة كل يوم.

بالرصاص، شنقاً أو بجرعات زائدة من دواء، بالحرق والارتماء عن علوّ… تتعدد الوسائل والانتحار واحدٌ، تزداد حلقاته تَراصاً يوماً بعد يوم في الوطن الجريح.

حلقة الانتحار التي يشهدها لبنان، وازدياد حالاتها في الأشهر الأخيرة رغم تَراجُع أعدادها سابقاً، جعلت الحديث عن هذه المعاناة أمراً ملحاً.

فعُقد في بداية كانون الأول الماضي في بيروت، مؤتمر «كسر الصمت حول الانتحار» الذي نظّمه البرنامج الوطني للصحة النفسية ومنظمة الصحة العالمية وجمعية «أمبرايس» بدعمٍ من الوكالة الفرنسية للتنمية والمعهد العالي للأعمال.

سلّط المؤتمرون الباحثون الضوءَ على تَزايُد خطر الانتحار الذي يواجه اللبنانيين من كل الأعمار نتيجة الانهيار النفسي الذي يعيشونه.

إذ بحسب الأرقام، فإن شخصاً واحداً على الأقل يُقْدِم على الانتحار في لبنان كل 48 ساعة، فيما تشهد حالات الانتحار منذ 2016 ازدياداً مضطرداً بلغت نسبته 35.5 في المئة.

ووصل عدد الوفيات التي سجّلتها قوى الأمن الداخلي انتحاراً إلى 1366 حالة خلال 11 عاماً، علماً أن هذه الحالات لا تشمل كل عمليات الانتحار التي لا يُسجّل العديد منها في هذه الخانة لدواعٍ اجتماعية.

ولكن بحسب الدولية للمعلومات، فإن 2021 رغم قسوتها شهدت تراجعاً بسيطاً في حالات الانتحار، مردّه ربما إلى التضامن الاجتماعي والمساعدات التي يتلقاها الأفراد الذين يعانون مشاكل نفسية – اقتصادية واجتماعية.

وهذا ما يبرر ربما تدنّي عدد حالات الانتحار من 178 في 2019 إلى 150 حالة في 2020 وإلى 119 حالة حتى نهاية تشرين الأول 2021.

ورغم الدقة التي تتوخاها الدولية للمعلومات في الأرقام التي تنشرها تبعاً لإحصائيات القوى الأمنية، إلا أن أعداد المنتحرين لا يمكن دائماً حصْرها، إذ غالباً ما يتم التعتيم عليها من الأهل. ووحدها الحالات التي تخرج إلى الإعلام أو يتم الإبلاغ عنها هي ما يُسجَّل.

وفي جولة على متفرقات الصحف في الأشهر الماضية، يمكن تَلَمُّسُ العديد من حالات الانتحار المؤلمة، وغالبيتها لشبانٍ في مقتبل العمر، وملاحظة ازدياد وتيرة الانتحار في الأشهر الأخيرة من 2021 بدءاً من شهر تموز مقارنةً بتراجعٍ كان قد سُجل في الفترة الممتدة من مطلع 2019 وحتى نيسان 2021.

معاناة تنهي حياتهم

في حادثة هزت لبنان أقدم الشاب عامر ياغي وهو في الثالثة والعشرين من عمره على الانتحار في منطقة البص في صور في بداية كانون الأول الماضي، رامياً بنفسه من سطح مبنى مؤلف من سبع طبقات، تارِكاً رسالة إلى والده يقول فيها «سامحني يا بيي بس أني بدي ارتاح… الموت مرة أحسن من الموت كل العمر».

وأثار انتحاره موجةً من السخط والألم في نفوس اللبنانيين الذين رأوا في مأساته تجسيداً لما يعانيه كل فرد فيهم.

وقبلها، توفي المواطن محسن حليم سليمان في غرفة العناية المركزة في مستشفى رياق العام، متأثراً بحروق خطيرة أصيب بها بعدما أشعل النار في نفسه في ساحة بلدة بدنايل البقاعية، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية الصعبة.

كذلك أقدم شاب لبناني يدعى بلال إبراهيم على الانتحار بإطلاق النار على نفسه، داخل مبنى المستشفى «الإسلامي» في مدينة طرابلس.

وأظهر مقطع فيديو، وثقته كاميرا مراقبة في المستشفى، الشاب وهو يتحدث عبر هاتف نقال، قبل أن يجلس على مقعد في إحدى الغرف ويطلق النار على صدره بواسطة مسدس كان بحوزته.

وقال عمّ الضحية إن ابن أخيه كان يبيع الخضراوات ويوزّعها على الأسواق والمحال التجارية، وكان متزوجاً لمدة 4 أشهر، إلا أن الفتاة قررت أن تتركه بسبب الظروف المعيشية الصعبة وسوء الوضع في منزلهما الزوجي، الذي اقتصر على فراش للنوم فقط. وعن وجود السلاح بحوزته، قال العم: «في منطقتنا أصبح الجميع يملكون الأسلحة، في ظل غياب الرادع».

وإذ رُصدتْ خلال شهر يونيو، وفي أسبوعين، ست حالات انتحار، فُجع الوسط الموسيقي اللبناني بحادثة انتحار الموسيقي الشاب زي كركبي، الذي سبق وقدم أعمالاً فنية وموسيقية خلال ثورة أكتوبر كانت صوت الشباب الثائر، وعبّر فيها عن سخطه واحتجاجه على حال البلاد ورغبته بالتغيير.

وتتعدد القصص، وإن كانت أقل بروزاً في الإعلام وعلى مواقع التواصل.

إذ سجل مثلاً سقوط ن. عياش من شرفة منزله في مدينة الميناء شمال لبنان، ورجحت المعلومات فرضية انتحاره.

كما عُثر في منطقة بشري الجبلية على جثة مواطن من آل رحمة مصاب بطلقة نارية وسلاح حربي بجانبه ما عزز فرضية انتحاره.

وفي عشقوت أطلق المواطن ج.ح. النار على نفسه، وألقى مواطن بنفسه من جسر كازينو لبنان، وآخر نجا من محاولة انتحار من جسر الكولا في بيروت وكأن الموت مرة واحدة هو المهرب الوحيد من موت بطيء يعانيه مَن يعيش في لبنان.

فئات مهدَّدة

هي حالاتُ انتحارٍ «تمّ»، وُثّقت وخرجتْ الى العلن. لكن ظلمة البيوت وكآبتها تُخْفي الكثير من اليأس الذي يقف أصحابه على حافة «الضغط على الزناد».

فالمعاناة في لبنان باتت تجعل من كل شخص «مشروع مُنْتَحِر» وإن كان المختصون يضعون هؤلاء ضمن ثلاث فئات مختلفة.

الفئة الأولى بحسب جمعية Embrace التي تعنى بشؤون الصحة النفسية هي الأشخاص الذين لا يعانون في الأصل مشاكل نفسية لكنهم لم يعودوا قادرين على مواجهة صعوبات الحياة وصاروا عاجزين عن تأمين القوت لأولادهم أو لأنفسهم وتلبية المسؤوليات المطلوبة منهم. وهؤلاء يجدون في الموت خلاصاً ومفراً.

بعضهم يُقْدِم عليه إن لم يجد أي مساعدة أو سَنَدٍ، ومنهم ورغم رغبته فيه يستجمع ما تبقى له من قوة ليستمر في المواجهة «وصراع البقاء»، إلا إذا باتت الظروف أقوى منه بكثير.

الفئة الثانية هي التي يجد المُنْتَمون إليها صعوبةً في الانتماء والتأقلم، وفق ما يشرحه الاختصاصي النفسي جون داوود: «فئة ضعيفة الإرادة في الأصل غير قادرة على مواجهة الصعوبات ومع ارتفاع وتيرة التحديات كما هي الحال اليوم في لبنان مع فقدان الناس لأموالهم وأعمالهم ورواتبهم وعدم قدرتهم على تعليم أولادهم او حتى تأمين لقمة العيش لهم، فإن وتيرةَ السلبية عند أبناء هذه الفئة تزداد وتزيد من عدم قدرتهم على المواجهة فيعمدون إما إلى الإجرام وإما إلى قتْل الذات لأنهم في الأساس غير مؤهَّلين لمواجهة الحياة بشكل إيجابي».

أما الفئة الثالثة، فهم الأشخاص الذين يعانون مشاكل نفسية وأمراضاً عصبية تجعل وضعهم هشاً وتقلِّل من قدرتهم على مواجهة تحديات الحياة. ومع بروز أزمةِ انقطاع أدوية الأعصاب والاكتئاب وارتفاع أسعارها بشكل كبير، بات العديد من المرضى النفسيين غير قادرين على شراء أدويتهم.

ومعروف أن انقطاع المريض عن تناول الدواء يؤدي إلى عودة ظهور العوارض النفسية ويعرّضه لانتكاسات، الأمر الذي يُعتبر في غاية الخطورة على الصعيد النفسي وقد يؤدي الى الانتحار في بعض الأحيان.

وتقول السيدة ميا عطوي، وهي عضو تأسيسي ورئيسة جمعية Embrace «إن انفجار الرابع من آب 2020 واستفحال الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية، كلها عوامل تَسببت في زيادة الضغوط النفسية على اللبنانيين وهو ما تجلّى من خلال عوارض متوسطة إلى شديدة من الاكتئاب والقلق بتنا نلمسها من خلال الطلب المتزايد والكبير على خدمات الصحة النفسية في لبنان التي أصبحت مكلفة جداً ويصعب على المواطنين الحصول عليها بسهولة، إضافة إلى هجرة كبيرة لطواقم الصحة النفسية، من مُعالِجين وأطباء نفسيين ما ينعكس عدم قدرة على مواكبة متطلبات الناس من الناحية النفسية. كما أن الاستشفاء في أقسام الصحة النفسية في لبنان أصبح يفوق قدرة المواطنين وقد يبلغ 20 مليون ليرة في الأسبوع أو أكثر وفق سعر الدولار ما يحول دون قدرة المريض على تلقي العلاج اللازم».

الرغبة الكامنة في الانتحار

هذه الرغبة في الانتحار التي تتجلى عند الفئات المذكورة سابقاً تظهّرت من خلال ارتفاع عدد الاتصالات التي تتلقاها جمعية «Embrace» يومياً، حيث بلغت أعداد المكالمات التي تستقبلها الجمعية لأشخاص يتعرضون لضغوط نفسية ويحتاجون للمساعدة في 2021 ثلاثة أضعاف الأعوام السابقة وفق المُشْرِفة على خط الحياة في الجمعية ريف رومانوس التي تقول إن الخط كان يتلقى ما بين 300 إلى 500 اتصال شهرياً قبل 3 أعوام، أما اليوم فيتلقى نحو 1500 اتصال شهرياً أي عشرات الاتصالات يومياً.

وبحسب المسؤولين في الجمعية فإن الاتصالات تَرِد في كل أوقات النهار والليل وتكون مُلِحَّة أحياناً بحيث يمكن أن تنقذ شخصاً هو على شفير الانتحار.

وتروي عطوي في حديث لها كيف أن المسؤولين عن تلقي الاتصالات استيقظوا في أحد الأيام عند الساعة الخامسة والنصف فجراً على اتصال من رجل مشرَّد في الـ31 من العمر يريد أن ينتحر عند تقاطع الرينغ المزدحم بالسيارات في وسط بيروت.

وكيف أنهم قبل ذلك تلقوا اتصالاً من أب يعيش في منطقة البقاع أراد أن يقتل نفسه لأنه لم يعد قادراً على إطعام أولاده الأربعة… واضطرت الجمعية إلى تمديد وقت تلقي الاتصالات من 17 ساعة إلى 21 ساعة يومياً، مع احتمال أن يصل إلى 24 ساعة.

حياة أشبه بالموت

تروي سعاد وهي سيدة خمسينية وأم لشابين كيف أنها لم تَعُد تجد أي رغبة في الحياة.

وتقول «صحيح أنني لا أفكر بالانتحار والتخلص من حياتي لكنني أرحّب بالموت إذا أتاني الآن. لا أخافه بل أجد فيه باب خلاص يريحني من هذه الحياة التي نعيشها. لم أعد قادرة على تحمل المآسي التي أشهدها يومياً مِن حولي ولم يعد للحياة أي لذة. مَن لا يشعر مع الناس لا يكون منهم، وأنا أنظر حولي وأرى زوجي وأبنائي وجيراني يجاهدون بكل قواهم ويبقون في مكانهم وكأننا بتنا عبيداً نعيش لنعمل بلقمتنا فقط».

أما عارف فهو رجل في منتصف الأربعينات يخيّم الصمت على حياته… لم يعد يرغب بالكلام ولا يجد له مبرراً، يمضي غالبية يومه جالساً على كنبته يدخّن سيجارة تلو الأخرى ويكاد لا يوجّه كلمة لأهل بيته.

تعرف زوجته جيداً أن ما يقوم به هو نوعٌ من الانتحار الصامت، فهو لم يَعُدْ يشارك في يوميات البيت ونأى بنفسه عن معاناة الحياة اليومية في لبنان وأحداثها المتواصلة.

عارف قد لا تكون لديه القوة للانتحار، لكن تدخينه المتواصل أشبه بطريقة لقتل النفس فهو مثل الكثير من اللبنانيين وَجدوا الحلَّ في عزْل أنفسهم بالجسد أو الفكر، بالموت أو الاكتئاب، عن بؤرة القهر و«معتقل التعذيب» والعذاب الذي باتوا… رهائن فيه.