IMLebanon

حوار “القصر”: مناورات فوق الطاولة وتحتها

كتب وسام أبو حرفوش وليندا عازار في “الراي” الكويتية: 

بين تدشين «زمن» الانتخابات النيابية (15 أيار 2022) بإطلاق مرحلة التقدّم بطلبات الترشيح (تستمرّ حتى 15 آذار)، و«تدشيم» الجبهات السياسية على خط رئيسيْ الجمهورية ميشال عون والبرلمان نبيه بري بما حوّل حكومة الرئيس نجيب ميقاتي «كيس ملاكمة»، يمْضي لبنان إلى أفقٍ غامض، الأكثر وضوحاً فيه أنه مفتوح على المزيد من «المواجهات الضارية» التي لن يكون ممكناً فصل منطلقاتها «المحلية» عن مرتكزاتها ذات الصلة بالوقائع الإقليمية التي تبقى «مسرح العمليات» الرئيسي الذي تدور و«تُدار» عليه «المعارك اللبنانية».

وكما أن نيابية 2022 باتت «العنصر الثابت» الذي يؤخذ بالحسبان في سياق تحريك غالبية الأطراف «أحجار اللعب» على رقعة الأزمات الداخلية، وخصوصاً في ملف التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت الذي أخذ الحكومة رهينةً منذ 12 تشرين الأول الماضي كما في مجمل العناوين الإصلاحية التي تشكّل ركائز أي مسارٍ إنقاذي من الانهيار الشامل، فإن هذا «المقياس» ينطبق كذلك على طاولة الحوار التي أطلق عون ديناميّتها ساعياً لجمْع القوى السياسية حولها لمناقشة ثلاثية اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، والاستراتيجية الدفاعية، وخطة النهوض.

وتسود أوساطاً واسعة قراءةٌ مفادها بأن دعوة عون للحوار تبدو وكأنها السبيل الأخير الذي يلجأ إليه لتعويم دوره في الأشهر الأخيرة من عهده، إلى جانب محاولة «تنفيس» العصَب الانتخابي لخصومه بالساحة المسيحية كما البيئات الأخرى عبر استدراجهم إلى طاولة تسحب «الدسم السياسي» من برامجهم الانتخابية سواء «الصِدامية» مع عون وحزبه «التيار الوطني الحر»، أو «المحتكرة» لعنوان سلاح «حزب الله» الذي تتمدّد الحساسية بإزائه لبنانياً، وفي الوقت نفسه «دغدغة» عواطف المسيحيين بعناوين كاللامركزية.

وهذه القراءة تنطلق من أن عون أصبح مُحاصَراً في السنة الأخيرة من ولايته أكثر من أي وقت، وهو راكَمَ الخسائر التي لحقت بعهده، منذ أن فَقَدَ ركنيْ التسوية الرئاسية، أي زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، وقبله رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، تَزامُناً مع التظاهرات التي استهدفتْه في صورة خاصة مع رئيس «التيار الوطني» جبران باسيل، وصولاً إلى تسارُع وتيرة «السقوط الحرّ» المالي وتَعَمُّق انسحاقات الليرة بتسجيلها انهياراتٍ يومية قياسية أمام الدولار الذي ناطح أمس 32 ألف ليرة في السوق الموازية.

ليست دعوة الحوار الأولى التي يوجهها عون إلى الأفرقاء السياسيين، ولا هي المرة الأولى التي ترفض بعض هذه القوى تلبية الدعوة.

ولم يكن مفاجئاً أن يسارع الحريري للاعتذار عن تلبيتها وكذلك جعجع.

كان الحريري واضحاً في تحديد سبب رفضه وربْطه الأمر بالانتخابات النيابية.

وهذا الربط ليس وليد لحظة انفعالية تبرر اعتذار زعيم «المستقبل» الذي يعطي إشارةً أولية إلى دوره في هذا الاستحقاق، سواء شارك شخصياً أم لا، كما يسبغ عليه أهمية قصوى من أجل تغييرٍ جذري يَفرض على طاولة الحوار أجندةَ عناوين مختلفة.

والحريري كما رؤساء الحكومات السابقون يتخذون من الدعوة مناسبة لتوجيه رسالة موحدة تتعلق بدور القوى السنية كافة وغيابها كطرف أساسي عن الطاولة، وخصوصاً أن ميقاتي حرص على جعْل مشاركته بالحوار في حال أصرّ عليه عون بصفته الدستورية أي كرئيس للحكومة لا أكثر وليس كممثّل للمكوّن السني.

فإذا كان رئيس الجمهورية يريد أن يحدد في العقد الاستثنائي لمجلس النواب البنود التي يفترض بالبرلمان مناقشتها، في سياق «المطاحنة» مع بري الذي يخوض مع «حزب الله» معركة إقصاء المحقق العدلي في «بيروتشيما» القاضي طارق بيطار، فإن رافضي طاولة الحوار في الوقت الراهن لا يرون أن عون الذي يفترض أن يغادر القصر الرئاسي خلال أشهر، يمكن أن يحدد عناوين الحوار.

بل يفترض أن يترك الأمر للرابحين في الانتخابات كي يُحددوا هم عناوين هذه الطاولة.

جعجع بدوره لن يقدّم لعون هذه الفرصة في معاودة تظهير مركزيّته وتقرير مسار الوضع السياسي، بعد خلافات امتدت لسنتين، وهو الذي يستعدّ لخوض انتخاباتٍ نيابيةٍ بخلفيات الاستحقاق الرئاسي وحساباته وتحت عنوانِ إفقادِ «التيار الوطني» و«حزب الله» أكثريتهما النيابية بوصف ذلك المدخل لتصويب البوصلة «السيادية» وبدء الإصلاح السياسي الذي يُعتبر الاسم الحَرَكي لمسألة سلاح «حزب الله» وتوريطه لبنان في صراعات المنطقة.

بري يراعي «الشكليات» وجنبلاط يريد «الأهمّ»

وقد يتميّز رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط بموقفه وهو الذي يحاول من حين إلى آخر عدم قطع خطوط التواصل مع عون، وسبق أن أوفد نجله النائب تيمور إلى طاولة الحوار التي قاطعها جعجع والحريري في حزيران عام 2020.

فهو يرى أن الوقت غير مناسب اليوم لإطلاق أي عملية حوارية في لحظة يشهد لبنان انهياراً غير مسبوق، في حين ان الناس يحتاجون إلى حلول آنية تتعلق بالكهرباء والمياه والمحروقات والدواء وأموالهم المُحتجزة في المصارف.

وشكّلت تغريدته يوم الأحد مؤشراً إلى تحفظه الواضح عن الحوار، إذ اعتبر أنه «للخروج من دوامة التعطيل المدمّرة فإن أفضل طريقة هي في أن يجتمع مجلس الوزراء دون أي شروط مسبقة وتبدأ ورشة العمل وفي مقدمها التفاوض مع صندوق النقد الدولي.هذا هو الحوار الأساس ولا بديل عنه».

وحتى زيارة شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز الشيخ سامي ابي المنى للرئيس عون أمس، حملت موقفاً حمّال أوجه بدا ملاقياً لسقف جنبلاط، إذ أكد الأوّل «اننا دائماً مع نهج الحوار، وإذا كان هذا الحوار الذي تدعون اليه هو حوار وطني سيؤدي لانتظام عمل الحكومة، فهذا هو المطلوب، لأن الوضع المعيشي الصعب اليوم لم يعد يحتمل، ولبنان يتأثر بتجاذبات دولية واقليمية ومحلية، ما يعوق مسيرة الإصلاح فيه»، معلناً «من موقعنا في مشيخة العقل، نؤكد ضرورة انتظام العمل في الدولة لحل مشاكل الناس، والتفاوض مع صندوق النقد الدولي، طبعا هناك أمور كبيرة ومهمة وتحتاج الى طاولة حوار، وبحث مصير لبنان وواقعه، والاستراتيجية الدفاعية وكيف يمكن أن ننقذ البلد. القضايا كبيرة، ولكن قضايا الناس اليوم هي الأهمّ، كما تدركون».

وإذا كانت الأنظار تتجه إلى بري، فرغم «القلوب المليانة» بينه وبين عون واشتباكهما الدائم، إلا أنه لم يعلن موقفاً علنياً مُسبقاً لإدراكه أن هذه الطاولة ستُجهض في مهدها أو ستكون مستنزِفة (بالمقاطعة لها) لِما تبقى من رصيدٍ معنوي لرئيس الجمهورية، خصوصاً أن رئيس البرلمان في كل الإشكالات التي حصلت مع عون ظل يحافظ على الشكليات، فلا يقاطع حواراً أو مناسبة رسمية، لكنه يترك المجال لمن ينوب عنه في تصفية الحساب مع «القصر».

وربما يجد في أجواء الأخذ والرد الآن فرصة مؤاتية للرد على عون بـ «التكافل والتضامن» مع رؤساء الحكومات السابقين في رفض اللامركزية الإدارية والمالية الموسعة، وإذا تحوّل الحوار أمراً واقعاً فهو لن يغيب.

أما رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، فلم يعط المجال لرفض الطاولة بعدما تحوّل الحوار، حتى الآن، مجرّد لقاءات في القصر الجمهوري بناء على دعوات وجهها عون إلى رؤساء الكتل النيابية، ما قد يسمح لفرنجية بإيفاد نجله النائب طوني فرنجية إلى بعبدا. والأمر نفسه ينسحب على حزب الكتائب الذي لن يشارك في الطاولة.

وفي حين رحب «حزب الله» بالدعوة وبعض حلفائه كالحزب السوري القومي الاجتماعي والأمير طلال إرسلان، فإن المشكلة تتمثل في عناوين هذا الحوار الذي بدا وكأنه من طرف واحد، خصوصاً أن خصوم باسيل يتهمون رئيس «التيار الوطني» بأنه وراء دعوة عون من أجل فرض إيقاعه الخاص على أبواب الإنتخابات النيابية وتمهيداً للانتخابات الرئاسية.

حواراتُ 16 عاماً… طاولات بلا طائل

ومن المعروف أن آلية الحوار بدأت في ظل خلاف جذري بين المكونات اللبنانية عام 2006 خلال عهد الرئيس إميل لحود، يوم الانقسام الحاد والعمودي بين «8 و 14 آذار»، لكنها تمت بدعوة من بري وعقدت في مجلس النواب.

ثم عقدت طاولة الحوار في تموز 2007 وعام 2008، وفي عهد الرئيس ميشال سليمان في 2012 و2014، وتوقفت بسبب عدم الاتفاق على الإستراتيجية الدفاعية.

حاول الرئيس عون، استئناف الحوارات في بعبدا فاتخذت أشكالاً مختلفة، كعام 2019، وعام 2020 الذي فشل في ظل تحكُّم الخلافات ومقاطعة زعيم «تيار المستقبل» سعد الحريري، وخلص إلى بيان إنشائي حول وقف الحملات التحريضية وصون حرية التعبير والحياة الديموقراطية «التي لا تستقيم إلا بوجود المعارضة» التي غابت عن الطاولة، وجرت دعوة إليه عام 2021 لكنها اصطدمت جميعها بخلافات مستحكمة ولم تصل إلى أي اتفاق ينهي الخلافات بين القوى السياسية.

فبعد عقدها أكثر من مرة وإخفاقها الدائم، فقدت طاولة الحوار كل نكهتها والغاية منها. فإذا كان مجلس الوزراء غير قادر على الالتئام، بسبب رفض «الثنائية الشيعية» تلبية الدعوة لاجتماعه قبل الفصل في قضية المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار، فكيف يمكن التعويل على نجاح طاولة الحوار ووفق أي عناوين، خصوصاً أن الدعوة تأتي على وهج التحضيرات الحامية للانتخابات النيابية؟

وتبعاً لذلك، لا رهان على اللقاءات الإفرادية التي ستحصل في بعبدا. وسبق أن عُقد مثلها أكثر من مرة من دون أن تؤدي إلى أي نتيجة، خصوصاً أن معارضي عون لن يقدّموا إليه أي هدايا مجانية بعد جفاء لأعوام وفيما يستعدّ لمغادرة بعبدا طرفاً من أطراف النزاع وليس رئيساً حَكَماً فاصلاً بين المتنازعين.