IMLebanon

أجانب لبنان صامدون في بلد الشقاء!

رغم أزماته الضارية التي حوّلت يومياته «مهمات شاقة» على مختلف مستويات العيش الذي بات أقرب إلى «صراع بقاء»، لا يزال لبنان يستقطب أجانب يعيشون في ربوعه، سواء من الدول العربية المحيطة أو من دول العالم الثالث الفقيرة أو من البلدان الغربية وحتى من الصين وكوريا الجنوبية، الذين اختاروا تمديد البقاء في الوطن المنكوب ومعه «على الحلوة والمرة».

بعضهم لشعورٍ بات يتملّكهم بـ «الانتماء إليه»، وبعضهم الآخر رأى في انهياره الشامل «فرصة» للاستفادة وجني المال أو اختبار نمط حياة لا يمكن أن يتوافر لهم في أوطانهم.

يتفاجأ اللبنانيون الذين يشكون ليل نهار، رداءةَ الخدمات في بلدهم وتَراجُعَ مستوى الحياة فيه والذين يسحقهم الغلاء الفاحش تاركاً غالبيتهم تحت خطوط البؤس وعلى تخومه، من بقاء أعداد كبيرة من الأجانب من جنسيات مختلفة على أرضهم، ويتساءلون ما الذي يجعل هؤلاء يتحمّلون ظروفاً تكاد تنعدم فيها أبسط مقوّمات العيش وصار معها الوطن الصغير يتصدّر لوائح أسوأ المؤشرات في المال والاقتصاد و«اخواته»؟ وهل يعيش هؤلاء وكأنهم على جزيرة معزولة لا يشعرون بما يكابده أهل لبنان أو على العكس باتت حياتهم أصعب؟

لا شك أن الأجانب في «بلاد الأرز» ينقسمون فئات، لكن الجامع الأكبر بينهم أنهم عرضة للتقلبات اليومية التي تخضع لها يوميات الشقاء اللبناني، ومضطرون للتأقلم مع صعوباتها شاؤوا أم أبوا، وغالبيتهم غير مستعدين (أو قادرين) حالياً على استبدالها بحياة أخرى

الغربيون المقيمون يعمل عدد كبير منهم في المنظمات الإنسانية غير الحكومية التي تكثر على أرض لبنان، أو هم متطوعون أتوا إلى البلد المنهك ليساعدوا أهله الفقراء أو اللاجئين فيه، فيما جزء آخر منهم من الديبلوماسيين والعاملين في سفارات بلدانهم أو في المنظمات التابعة للأمم المتحدة، أو موظفون في شركات عالمية مازالت تتخذ من بيروت مقراً إقليمياً لها.

هذا إلى جانب بعض الحالات المتفرّقة ممن اختاروا لبنان سابقاً لحلاوة العيش فيه حتى صار وطناً ثانياً لهم يرفضون مغادرته. وهناك فئة ثانية يشكلها العمال الأجانب الذين تأتي غالبيتهم من بلدان محدودة الدخل في آسيا وأفريقيا، إضافة إلى بعض البلدان العربية المجاورة، وأبرزها مصر وسورية والعراق.

في جولة أجرتْها «الراي» على أفراد من مختلف الفئات، استطاعت أن ترسم صورة لحياة هؤلاء الأجانب في لبنان، الذي «دشّن» أبناؤه موجة «هجرة جَماعية» جديدة هرباً من «الجحيم»، فيما المهاجِرون إليه من جنسيات عدة، إما «صامدون» وإما هواة العيش فيه على طريقة «كيف ما كنت بحبّك».

كلاسينا، سيدة هولندية تعمل وزوجها في منظمة إنسانية لمساعدة اللاجئين وهي تعيش في لبنان منذ سنتين مع زوجها وطفلتين صغيرتين.

تعترف بوجود صعوبات يومية بالنسبة إليها والى عائلتها الصغيرة «لكن هذه الصعوبات لا تُقارَن بما يعانيه اللاجئون الذين يفتقدون أبسط مقومات الحياة»، وهي تخجل أن تتذمر منها أمامهم أو أمام اللبنانيين الذين يعيشون هذه الصعوبات.

لكنها حين تقابل جارتها في المبنى حيث تسكن، تجد نفسها مضطرة لمجاراتها بالشكوى ولا سيما من وضع الماء الذي تفتقد إليه البناية.

وتعترف بأنها تتذمر أكثر أمام أصدقائها الهولنديين الذين يعيشون حياة هانئة سهلة في الوطن الأم. لكن رغم كل شيء، كلاسينا فرحة بالحضانة التي تعلّم صغارها ثلاث لغات، وهي تعشق طبيعة لبنان الجميلة حيث يمكنها ممارسة عدة نشاطات ترفيهية في الطبيعة.

«حتى الآن لم نشعر بالحاجة لمغادرة لبنان بل على العكس نحن متمسكون أكثر بمساعدة الأشخاص الذين بدأوا يفقدون الأمل ولم يعودوا قادرين حتى على تأمين مستلزمات الحياة الأساسية. لم نشعر مطلقاً بعدم الأمان في هذا البلد، بل على العكس وجدنا محبة وصداقة ورغبة بالمساعدة من الناس الطيبين هنا.

لا شك أننا نعاني أقل من سوانا لأننا نملك الدولار الذي يؤهّلنا تأمين كل ما نحتاجه، ولكن بتنا اليوم ومع الغلاء المستفحل في لبنان نشعر بالفارق بين الوضع الحالي وما كانت تسمح به إمكاناتنا سابقاً».

كلاسينا، دعت شقيقها للقدوم خلال عطلة الشتاء إلى لبنان «والاستفادة من كل ما يقدّمه هذا البلد من أشياء جميلة مثل الطعام الجيد والناس الطيبين والخدمات الترفيهية بأسعار زهيدة».

لكن أكثر ما يؤلم هذه السيدة الغريبة، أنها بدأت تلمس أن الناس في لبنان فقدوا السعادة والأمل، لكنها تؤكد أنها ستبقى معهم ولن تستسلم.

راشيل، سيدة سويسرية أتت مع زوجها إلى لبنان بناء على عقد وقّعتْه مع إحدى المدارس التي تعنى بذوي الاحتياجات الخاصة كونها مختصة في علم النفس الحرَكي للأطفال.

وقد استأجرا منزلاً في منطقة هادئة قريبة من المركز وباشرت عملها رغم جائحة كورونا.

وتقول «حين قدمتُ قبل 3 أعوام، وجدتُ الحياة رائعةً في هذا البلد وعشقت عملي مع الأطفال ولا سيما بعدما لمستُ احتياجاتهم الكثيرة. وكنت مع زوجي نمارس المشي في الجبال والتزلج ونستمتع بالبحر والمطاعم اللبنانية بميزانية محدودة نستقطعها من راتبي.

واليوم الأمور اختلفت وصارت الحياة أصعب من حيث توافر الكهرباء والماء داخل البيت، وكذلك التدفئة في المركز وتأمين احتياجات الأولاد.

لكن كل ذلك لم يمنعنا من متابعة ممارسة نشاطاتنا التي نهوى، واستطعنا ككل اللبنانيين أن نوفّر البدائل، ولاحظنا حتى اننا بتنا قادرين على إنفاق المزيد مع ارتفاع قيمة الراتب الذي أتقاضاه بالدولار.

ولا شك أن الأمر مزعج أحياناً، ولكن رحلة إلى الثلج بكلفة زهيدة بالنسبة إلينا تعادل كل ما نعانيه من إزعاجات يومية عابرة».

ثاديوس، أميركي يعيش في بيروت منذ سنة ونيف ويعمل بدوره مع منظمة إنسانية.

لم يختبر حياة لبنان قبل الأزمة ويعاني صعوبة في تقبل فكرة أن يعيش شعب في القرن الواحد والعشرين في ظل ظروف كهذه.

وأكثر ما يزعجه بطء الإنترنت وانقطاعه المستمر.

ولكن حين يرى حب الشعب اللبناني للحياة ومحاولات الشباب رغم حال التقشف المادي التي يعيشونها أن يخرجوا ويمرحوا ويقوموا بنشاطات مختلفة، يتفاجأ من قدرة هذا الشعب على الاستمرار.

ويقول «أعرف جيداً أن ثمة مناطق يسودها فقر رهيب وأن هناك أشخاصاً غير قادرين على تحصيل لقمتهم اليومية وأن وضعهم مأسوي لكنهم لم يتحولوا إلى مجرمين كما في الأحياء الفقيرة في أميركا، ولم يلجؤوا الى أعمال مخلة بالأمن بل يكدون بصمت لمساعدة عائلاتهم. وأجد أن حالة الأمن في لبنان ووضع الجرائم فيه أفضل مما هو عليه في بلدان كثيرة».

أما بالنسبة للوضع العام، فثاديوس دائماً ما يلتزم توجيهات منظمته حول إجراءات السلامة التي تنصح بها والأماكن التي يجب عدم زيارتها، وعدا عن ذلك هو لا يشعر بأنه في مكان معادٍ أو خطر.

فيليبا الكندية، التي عاشت فاجعة انفجار مرفأ بيروت في 4 أب 2020 وكانت قريبة من مكان حدوثه، لم تستطع الاستمرار في العيش في العاصمة اللبنانية بعده وغادرت بعد الكارثة بشهرين. حال الذعر التي عاشتها لم تُمْحَ من بالها بل بات الخوف رفيقها. ولذا فضّلت فيليبا ترك عملها في لبنان والعودة إلى بلدها.

ومن هناك تروي لـ «الراي» أن كل ظروف الحياة الصعبة التي عاشتها مع اللبنانيين «لا توازي لحظة خوف واحدة شعرت بها حين رماها الانفجار أمتاراً ودمر ما حولها».

وحتى اليوم لا تزال هذه الصور تراودها.

صحيح أنها تحن إلى لبنان الذي قضت فيه أوقاتاً رائعة، لكنها لا تفكر حالياً بالعودة ولا سيما مع كل ما تسمعه من أصدقائها من صعوبات وتبدل لمجمل ظروف الحياة.

وتأسف فيليبا لما آل إليه وضع لبنان، الذي تفاجأت به حين زارته للمرة الأولى، وكانت تظنه بلداً متخلفاً فإذ بها تجد بلداً متطوراً راقياً، ولا يمكنها أن تتخيل المعاناة الصعبة التي يعيشها اللبنانيون اليوم وتظن أنها غادرت في الوقت الملائم.

وإذا كان خيار الغربيين نابعاً من اقتناعاتهم، فثمة أجانب من فئات أخرى فرضت عليهم الظروف، تَحَمُّل مرّ لبنان والبقاء فيه.

فهمي، أربعيني مصري الجنسية، يعيش في لبنان منذ أكثر من 10 أعوام.

يعمل كناطور في إحدى البنايات، ويقوم بخدمات متفرقة للسكان في الحي.

يقول لـ «الراي» إنه غير قادر على العودة الى وطنه الأم والعمل هناك، رغم التحديات الكبيرة التي يواجهها في لبنان حالياً.

فهو مضطر لمضاعفة ساعات عمله نهاراً وجزءاً من الليل، حتى يتمكن من استقطاع مبلغ مما يجنيه بالليرة اللبنانية، وقليلاً منه بالدولار، يرسله إلى عائلته في مصر.

ويوضح فهمي، انه بعد انفجار بيروت، حاول أن يعود إلى بلده ويعمل هناك، لكنه اضطر للعمل تحت إمرة إبن أخيه الذي يصغره بأعوام، من دون مردود كافٍ… لكن في لبنان يمكنه أن يقوم ببعض الأعمال التي تدرّ عليه مردوداً مقبولاً، خصوصاً بعدما صارت مطلوبة في ظل رحيل الكثير من العمال والعاملات…

أما مواطنه أشرف، فسافر إلى مصر وعاد، لأنه اعتاد نمط الحياة في لبنان، وهو قادر أن يجني المال من مصادر عمل مختلفة، وليس مضطراً لدفع بدل سكن يؤمنه له رب عمله، او مأكل يتقاسم تكلفته مع عامل آخر يشاركه السكن.

ومثل كثيرين، تعتبر شاهينة وهي عاملة منزل من التابعية البنغلاديشية، أن الحياة في لبنان لا تزال أفضل بكثير منها في بلدها الأم، حيث الفقر والعوز يسودان مختلف مناطق البلاد، بحسب قولها.

هي تعمل في تنظيف البيوت وقد رفعت تسعيرة ساعتها حتى تتمكن من تحويل ما تجنيه الى الدولار وإرساله الى عائلتها: «لم أعد أرسل المبالغ التي اعتدت أرسالها سابقاً لكنني مازلت قادرة على إرسال 50 أو 100 دولار شهرياً بإمكانها أن تعيل عائلتي.

أما هنا فأعيش حالة من التقشف القصوى خصوصاً بالنسبة للطعام والتدفئة، وصرتُ أمتنع تقريباً عن تناول اللحوم، وأكتفي بالخضار الذي أشتريه من هذا الذي تنزّل أسعاره.

لكنني مهما سعيت وجهدت في العمل، لم يعد ممكناً لي أن أوفر مالاً كما كنت أفعل سابقاً. ومع ذلك لا أفكر اليوم بترك لبنان الذي لا يزال مصدر رزق لي قد لا أجده في بلدي».

سلام شابة من التابعية الإثيوبية، تقول إنها تعيش اليوم أفضل أيامها في بيروت، وذلك لأنها تهتمّ بسيدة عجوز وتنال راتباً بالدولار، أعلى مما تناله ابنة ربة البيت من عملها.

أما الراتب فيصلها من ابن السيدة العجوز الذي يعيش مع عائلته في الولايات المتحدة.

سلام لا تهمها الأزمات، لأنها ليست مسؤولة لا عن الكهرباء ولا عن التدفئة، فكل شيء مؤمن في البيت ومصروفها في لبنان أصبح أقل من السابق بكثير، لأنها تُحَوَّل دولاراتها إلى عملة لبنانية وتعيش في بحبوحة وتخرج وتشتري، وتضع الباقي في حساب لها في مصرف اثيوبي.

لكن إذا كانت سلام محظوظة، فسواها كثر من العمال الأجانب باتوا يشاركون اللبنانيين جحيمهم ولا سيما مَن لا ينال منهم راتباً بالدولار وليس قادراً حتى على جمْع ثمن بطاقة السفر للعودة إلى وطنه.

والأقسى في هذا كله أنه حين يتوفى أحد هؤلاء الأجانب الفقراء الذين يعيشون في لبنان، فإن تكلفة نقل جثمانه إلى وطنه ومعاملاتها القانونية، تفوق كل ما يمكن أن يكون قد جناه في حياته، وتتطلب تكافلاً من كل رفاقه ومواطنيه للمشاركة في دفع المبالغ المطلوبة لإعادته إلى موطنه.

ويشهد لبنان منذ فترة تظاهرات مستمرة لفتيات من بلدان أفريقية أمام سفارات بلادهن للنظر في أوضاعهن المأسوية، في ظل امتناع أرباب العمل عن الدفع لهن بالعملة الصعبة ومطالبة السفارات بتأمين عودتهن إلى بلادهن بعد أن بتن بلا مأوى وغير قادرات حتى على تأمين مأكلهن.

وهكذا يؤكد لبنان تناقضاته مرة جديدة فيكون نعيماً للبعض وجحيماً للبعض الآخر وإن كانت لا تجمعهم به أي صلة رحم أو مواطَنة.