IMLebanon

لبنان مجدداً بـ”المسرح السياسي” لاغتيال الحريري: الـ1559 والانتخابات

كتب وسام أبو حرفوش وليندا عازار في “الراي” الكويتية: 

نادرة المحطات التي تكون «هادرةً» بالصمت الذي يلفّها، ويتداخل في إحيائها الشخصيّ والوجدانيّ والسياسيّ، وكأنها «تراجيديا» وطن تقيم ذاكرتُه العميقة في أضرحةٍ ونعوشٍ «إن حَكَت» فهي تختزل لعنةَ اغتيالاتٍ صارت نقوشاً على لوحاتٍ على امتداد رقعةٍ احترف مَن عليها لعبة «القتل على الهوية» السياسية.

أمس كانت الذكرى 17 لاغتيال الرئيس رفيق الحريري التي حلّت مثقلةً بكل تداعياتِ مرحلةٍ تدحرج فيها لبنان وما يزال في حربٍ من نوع آخر، طالت أكثر من الحرب الأهلية (بين 1975 و 1990) وضَغَطَ تفجيرُ 14 شباط 2005 «زنادها»، وكأنّ حفرةَ السان جورج التي ابتلعت «الخطوط الحمر» الخارجية التي كانت رُسمت حول الهامَة الاقليمية – الدولية، والنيرانَ التي تصاعدت من ذاك الموكب الذي تفحّم، شكّلت أولَ «طبقات» جهنّم التي «يُحرق» فيها اليوم الوطن الصغير «بمَن فيه»، وبدوره وهويّته وتوازناته ورسالته و«فكرته».

بين «اثنين الجريمة» و«اثنين الذكرى»، كانت العودةُ مشهودةً وعفويةً إلى الضريح (في باحة مسجد محمد الأمين في وسط بيروت) الذي بدا مضرَجاً بكل التقلبات التي عصفت بالبلاد منذ 2005 والتي اعتقد كثيرون أنها ستترك الحريري في ذكرى تفجيره الـ 17 وحيداً مع رفاقه الشهداء في قبرٍ بقي قُبْلةَ المشهد الداخلي بامتداداته الإقليمية وعاد المناصرون إليه أمس ليبطعوا قبلتيْن، على وجنتيْ قاطنه ونجله الرئيس سعد الحريري وكأنها «نصف وداع» بعد «نصف الاعتزال» الذي أعلنه قبل أسابيع للعمل السياسي.

حشدٌ فاجأ الجميع، لاقى الحريري الابن إلى أمام الضريح حيث وصل عند الواحدة إلا خمس دقائق، الساعة التي دوى فيها الانفجار الكبير، ترافقه «العمة بهية» وعمّه شفيق وشقيقته جمانة والنائبة السابقة نايلة تويني (كريمة الشهيد جبران تويني)، حيث قرأوا الفاتحة على روح الرئيس الشهيد.

في شكل الحضور «العائلي» كما صمْت الحريري الابن في حضرة آلاف مؤيديه الذين هتفوا له «بالروح بالدم» ورفعوا لافتات «أوفياء لك» و«لا زعيم غيرك»، تأكيد على حرص زعيم «المستقبل» على إسباغ الطابع الوجداني – الشخصي على المناسبة في ذكراها الـ 17، انسجاماً مع قراره تعليق العمل السياسي والانكفاء عن خوض الانتخابات النيابية.

وفي مشاركة تويني، التي رسمت إشارة الصليب أمام الضريح، رسالة مدجَّجة بدورٍ عابر للطوائف لطالما أكد «المستقبل» أنه يحمله في الأمس والمستقبل، كما بالمعاني التصالُحية بمعناها الوطني التي عبّرت عن نفسها بعد اغتيال الحريري وفي يوم ثورة 14 آذار 2005 واختزلها قَسَم جبران تويني «مسلمين ومسيحيين إلى أبد الآبدين».

أما الجمهور، فزحف في عيونه وصوته دمعة وغصّة مزدوجة وهو يحْيي ذكرى الحريري الذي سُفك دمه في قلب بيروت التي «أحبها حتى الموت»، ويحيّي الحريري الابن ويعلن تأييده والتضامن معه في خياره المُرّ الذي تكاتفتْ في الوصول إليه تراكماتُ مرحلة سياسيةٍ طبعتْها مكاسراتٌ ساخنة تارة وباردة تارة أخرى، في سياق محاولة منْع وضْع لبنان في «فم البركان» الإقليمي وتقويض توازنه الداخلي وإدخال «تعديلات جينية» على نظام الطائف، وأيضاً خلافات شقّت طريقها إلى صفوف الحلفاء (في ما كان يُعرف بقوى 14 آذار) الذين تفرّقوا وتَشاركوا الانجرار إلى «ملاعب الخصوم» وخياراتهم وتَبادُل بالحدّ الأدنى… النكايات.

أمس، قال مناصرو الحريري كلمتهم، بأنّهم «ع الوعد نكمل دربك» ولو انكفأ مَن أكدوا في تحلُّقهم حوله زعامتَه، في «مبايعةٍ» متجددة ستزيد من إرباك الساعين إلى توفير «إدارة ذكية» لمرحلة انسحابه من المشهد السياسي وتحديداً للانتخابات النيابية المقبلة التي ستغيب عنها «الحريرية» للمرة الأولى منذ نحو ربع القرن، ويخوضها المكوّن السني وهو في حال أقرب الى «اليتم» السياسي التي تحاول القيادة الروحية كما رؤساء الحكومة السابقون الحدّ من أضرارها وتأمين أطرٍ تُبقي على «جدران صدّ» أمام أي استضعاف له أو محاولاتٍ لتقاسُم «تركة» تيار المستقبل بين الخصوم كما الحلفاء السابقين.

وحَمَلَ صمت الحريري أمام مناصريه واكتفاؤه بتحيّتهم، وعلامات التأثر على وجهه، إشاراتٍ متجددة إلى ثباته على قراره الذي كان بلوره في كلمة قالها قبل أسابيع ومشى إلى دولة الإمارات (عاد إليها)، تارِكاً المشهد السياسي يتلقى تداعيات الانكفاء الصاعق الذي تردّدت أصداؤه أمس في ذكرى جريمة تَكَرَّس أن دمها لم يجف بعد، جريمةٌ تستعيد مع إطفاء «شمعتها الـ 17» مسرَحَها السياسي الذي شكّله يومها القرار 1559 الذي صدر في 2 أيلول 2004 عشية التمديد للرئيس اميل لحود، ونصّ، إضافة لإجراء الانتخابات الرئاسية «وفق الدستور»، على نزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية («حزب الله» الى جانب انسحاب القوات السورية من لبنان)، وأيضاً الانتخابات النيابية التي كان الرئيس رفيق الحريري يعدّ العدّة لتكون المدخل لتطبيق «النسخة اللبنانية» من اتفاق الطائف وما تعنيه من ملاقاة تحولات كانت المنطقة تطلّ عليها انطلاقاً من الواقع العراقي.

وبكلمات مقتضبة للإعلاميين، اختصر الحريري من وسط بيروت مشهدية الضريح، الذي كانت زارته وفود سياسية أبرزها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي والرئيس السابق فؤاد السنيورة، معلناً «المشهد قال كلّ الكلام وجمهور(المستقبل) حرّ في المشاركة» بالانتخابات النيابية، وذلك بعدما كان أكد خلال اجتماع عن بُعد عقده مع كتلته البرلمانية (الأحد) تمسكه بعدم الترشح للانتخابات وعدم ترشيح أي عضو من «المستقبل» ولكنه لن يدعو الى مقاطعة الانتخابات ولا الى المشاركة فيها.

ونُقل عنه قوله للنواب خلال الاجتماع، انّه يتحدث اليهم بصفته «أخاً» لهم، ناصحاً إياهم بعدم خوض الانتخابات بالنظر الى معطيات تشي بأنّ «التطورات في البلاد تتجّه نحو الأسوأ، وانّ الوضع الى مزيد من التدهور وهناك أيام صعبة آتية، ولا حل في الأفق على أي مستوى اقليمي أو داخلي ولا دولي، وخصوصاً أن بقي الجميع على مواقفهم»، ولذلك قال لهم: «من الأفضل ألّا تكونوا في موقع تتعرّضون فيه للشتائم والمسبات». وأضاف: «لست في موقع أن أمنع أو أسمح لأي كان بالترشح»، تاركاً لكل منهم اتخاذ الموقف الذي يراه «إلا أن لي شرطاً واحداً بألّا يكون أي قرار تحت مظلة تيار المستقبل او باسم سعد الحريري».