IMLebanon

أوكرانيا أولى ضحايا اتفاق فيينا

كتب كارلوس نفاع في “الجمهورية”:

أعادت الجغرافيا السياسية كتابة مستقبل شرق المتوسط من صفحات التاريخ. فكما اضطر محمد علي إلى قبول اتفاقية لندن في ١٥تموز١٨٤٠، ها هو الرئيس الإيراني الثامن إبراهيم رئيسي اليوم، يقبل بمخارج مسودة اتفاق فيينا النووي، مسابقاً التصدّعات الاستراتيجية في العلاقة الإيرانية ـ الروسية.

فكما وافقت القوى الأوروبية على استخدام كل وسائل الإقناع الممكنة لتفعيل هذا الاتفاق، الذي رفضه في البداية محمد علي، بدعم من فرنسا طمعاً من الأخيرة بالسيطرة على بلاد شرق المتوسط والعمق السوري، كذلك اليوم نشهد في خواتيم طاولة فيينا، القبول الإيراني بحصر الاتفاق في المرحلة الأولى بضبط التخصيب، وفق الورقة التي حملها روبرت مالي من الإيرانيين انفسهم عام ٢٠١٤، حين كان الرئيس والمدير التنفيذي لمجموعة الأزمات الدولية في واشنطن، وأصبحت اساس اتفاق عام ٢٠١٥ النووي. والجدير ذكره، انّ روبرت مالي هو إبن الصحافي اليساري المصري الولادة واليهودي الحلبي الأصل سيمون مالي، أحد المدافعين الصلبين عن قضايا العالم الثالث ومناهضة الإستعمار، والذي عيّنه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مراسلاً لصحيفة «الجمهورية» المصرية في الأمم المتحدة. توصل مالي اليوم الى إقناع الأميركيين برفع العقوبات الأساسية وتحرير الأموال المحجوزة، والتي أكلها التضخّم العالمي، مقابل تحرير السجناء الأميركيين الثلاثة، وترك موضوع عبور الغاز والنفط الإيراني إلى أوروبا الى مرحلة لاحقة، تمّ الاتفاق عليها ضمن سلّة الترسيم السياسي الجديد للمنطقة وغير المعلنة، والتي تذكّرنا بطريقة حل أزمة الصواريخ الكوبية التي لم تُعلن في حينها كل بنودها، وأهمها سحب صواريخ «جوبيتر IRBM» الأميركية ذات الرؤوس النووية من تركيا، مقابل سحب الصواريخ السوفياتية من كوبا.

فالاتفاق مع إيران اليوم يهدف الى احتضانها في حلف بغداد الجديد، لضمان السيادة الأميركية على الجبهة الخلفية، في مرحلة الاشتباك الأميركي ـ الصيني الذي تتسارع مساراته. في حين انّ خيارات الاميركيين لخطوط الغاز والنفط الايرانية ثلاثة وتحمل التأجيل.

فالخيار الاول، خط إمدادات غاز عبر أرمينيا وجورجيا فالبحر الأسود وأوكرانيا ومنها الى بولندا وألمانيا، وهذا ما يرفضه الروس، لأنّ في ذلك ضرباً في الصميم لأنابيب «نورد ستريم٢» التي استُهدفت بعقوبات أميركية تمنع شبك الغاز الروسي بألمانيا. والخيار الاول، عطّله الأتراك بالشراكة مع الروس عبر التدخّل العسكري المزدوج كقوة سلام بين أذربيجان وارمينيا. وعلى الرغم من انّ هذا الخط يدغدغ حلم إيران، لأنّه يعزز قدرتها على منافسة تركيا وروسيا اوروبياً، ولكنها تدرك انّ الروس اندفعوا على مشارف توقيع الاتفاق النووي الإيراني الاول في ايلول ٢٠١٤، وضمّوا شبه جزيرة القرم، كما سيطر الانفصاليون الذين تدعمهم موسكو، على المناطق الصناعية الشرقية في دونيتسك ولوهانسك، والواقعة على الحدود الروسية. وايضاً اليوم، وقبيل الإعلان القريب للعودة الى الاتفاق النووي الإيراني، اندفع الروس لاجتياح اوكرانيا بغية السيطرة التامة، و ضمناً إبقاء أوكرانيا بعيدة عن حلف شمال الأطلسي، والإمساك الكامل لإمدادات الغاز وأحاديتها نحو اوروبا.

الخيار الأميركي الثاني لإمدادات الغاز الايراني، هو عبور الخط إلى إيطاليا عبر تركيا، ما سيؤدي الى تعاظم دور أنقرة ويعطيها حضوراً دولياً أكبر، لا يرغب فيه أحد، أولهم إيران وشيوخ القارة العجوز وآخرهم بوتين، لاعتبارات اطلسية.

الخيار الثالث، وهو عبور إمدادات الغاز عبر العراق وسوريا ولبنان للربط بقبرص عبر طرابلس، ما يعيد الى الأذهان حلف بغداد سنة ١٩٥٥ بين باكستان وإيران والعراق وتركيا، الذين جمعهم في الأمس الأميركي ورعاهم البريطاني، للوقوف في وجه المدّ السوفياتي في حينه، وفي وجه التمدّد الروسي والصيني اليوم. كما ويندرج هذا الخط ضمن السعي الأميركي لشبك المصالح الاقتصادية النفطية في المنطقة بعضها مع بعض، من الخليج الى البحر الابيض المتوسط، لضمان السيادة عليها وتحرير أوروبا من الحاجة الملحّة للغاز الروسي، ما يضمن بقاء جدران العزل والحماية الأطلسية قائمة حولها. ومن هنا، هل تنكسر الجرّة الروسية ـ الإيرانية في سوريا، ويندفع النظام من البوابة الإماراتية، فيضحى تحت مظلة التقارب الايراني ـ الخليجي الذي تفرضه البنود غير المعلنة لاتفاق فيينا، وتبدأ لبننة الشام عبر إعلان اتفاق للحل من الدوحة؟ ام يشتعل من جديد الميدان السوري تمهيداً لإخراح القيصر من المياه الدافئة؟

أمام سرعة تدحرج المنطقة بعد مؤتمر بغداد الذي رعته فرنسا، يقف زعماء الحرب الأهلية مذهولين، يعلنون بصمتهم التسليم المطلق لطرح هوكستين بترك الترسيم البحري جنوباً لمرحلة لاحقة، وإنشاء صندوق للموارد لحقل كاريش وقانا، تديره دولة قطر كمرحلة انتقالية، وذلك يُعتبر تظهيراً وقبولًا بالتطبيع الذي اتُفق عليه سراً في فيينا. فلا إيران نووية من دون سلام ولا سلام من دون الخليج. وما المبادرة الكويتية وتخلّي السعودية عن رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري وكل لفيفه، إلّا خطوة تسهّل على إيران الحذو بحذوها بالتخلّي عن النهج المسلّح كلياً. فالريادة الجديدة في المنطقة لمن يفتح ابواب الحرية للأجيال الشابة، من دون ان ينهار الازدهار، لمن يستطيع ان يقرّ بحق الإنسان الفرد بالفرادة لا بحق الجماعة.

دول المنطقة جميعها تتراجع عن سياسة التنافس العسكري والهيمنة، وتعمل لضمان حضورها بنحو جديد. فالاقتصاد الرقمي والحرية المطلقة هما السلاح الجديد. فلا مكان للإيديولوجيات الهرمة ولا للمدارس الجامدة. المنطقة نحو عصر جديد تسقط فيه كل الأصنام، فقد استهلكت كل طقوسها وانفضح زيفها وأضحى إفلاسها بلا حدود.

لهذا على اللبنانيين اليوم أن يدركوا التغييرات السريعة والجذرية التي تتيح لهم بناء دولة عصرية تعددية حيادية، أُسُسها قضاء حرّ واقتصاد حر عادل اجتماعياً.

فالخروج نحو النور متاح من باب إصرار الإنسان الفرد على حقه في المحاسبة من كل الأبواب، أولها العدالة في جريمة المرفأ، والحجز على أموال أمراء الحرب وآلهة الصناديق. في يد اللبنانيين اليوم عبر الانتخابات، قدرة تحرير الدولة من تحكّم المافيا التي عبثت في الكهرباء والماء والطبابة والتعليم والنقل والبيئة عبر أقزام الطوائف. بعبورنا نحو وطن سيادة القانون تتحقق سيادة الدولة. فالسيادة تكتمل بإلزامية التعليم والتغطية الصحية الشاملة التنافسية وبالنهضة الزراعية والصناعية، وبتحرير الأملاك البحرية وحماية كل أصول الدولة وإخراج لبنان من فلك دول تبييض أموال الجريمة الدولية، وبالشفافية المطلقة عبر تطبيق قانون الحق للوصول الى المعلومات.

الفجر قريب، وهذا ما عمّق ما قاله أمين سرّ الكرسي الرسولي للعلاقات بين الدول ريتشارد بول غالاغير، والكلام له: «كل الشرق الأوسط يتطلع إلى لبنان كرسالة للمستقبل، من هنا وجب الحفاظ على الهوية الوطنية لهذا البلد، الذي إذا ما تطورت الأوضاع فيه إيجابياً، فإنّ الأمر سينعكس على المنطقة».

فنحن أمام خيار من اثنين لا ثالث لهما: إما رغيف يسدّ جوع اليوم، فنكون عبيد الغد، وإما صوت الحق يحاسب اليوم فنعود أبناء الحرية.