IMLebanon

لماذا انزعج “الحزب” من بيان “الخارجية”؟

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

أثار بيان الخارجية اللبنانية الذي استنكر «الاجتياح الروسي» لأوكرانيا، استياء «حزب الله»، الذي اعتبر انّ الوزارة تخلّت عن سياسة النأي بالنفس واتهمها بالخضوع لضغوط واشنطن وخدمة الأجندة الأميركية. ولكن، ما سبب انزعاج الحزب، وهل يشكّل البيان نسفاً لسياسة النأي بالنفس؟

النأي بالنفس او الحياد مؤلّف من ثلاث طبقات أساسية: الطبقة المجتمعية اللبنانية وضرورة عدم تأثرها بالنزاعات الدولية والإقليمية تجنّباً لنقل الصراعات والحروب الخارجية إلى لبنان، او ان يبقى حدود تأثرها ضمن وجهات النظر السياسية، الأمر الذي يصعب تحقيقه قبل الوصول إلى وعي سياسي مجتمعي، أولويته الاستقرار والازدهار واستبعاد كل ما من شأنه ان يطيح هذا الاستقرار الذي يشكّل مصلحة وأولوية للمجتمع والناس ونمط عيشها.

الطبقة السياسية بمكوناتها الحزبية والمستقلة وضرورة عدم تبنّيها لقضايا خارجية على حساب القضية اللبنانية، وفي حال ذهبت بحماسها إلى حدود تأييد هذه القضايا، فلا يجب ان يخرج هذا التأييد عن إطار الموقف السياسي، أي الامتناع عن نقل الصراع بالدفع نحو انقسام محلي عمودي والإطاحة بالاستقرار اللبناني.

الطبقة الرسمية التي عليها ان تتخذ الموقف المنسجم مع الشرعيتين الدولية والعربية. فلا يجوز ان يكون لبنان خارج المظّلة التي تشكّل الضمانة الدولية لحمايته من دول تستقوي عليه وتستبيح سيادته، فمن يضمن تطبيق القرارات الدولية مثلاً في حال وقف ضدّ الشرعية الدولية؟

وسقوط الحياد عشية الحرب الأهلية لم يحصل من الباب الرسمي، إنما من باب الأمر الواقع الفلسطيني، والذي تدرّج مع الاحتلال السوري وصولاً إلى «حزب الله» اليوم، حيث فقد لبنان سياسته الدفاعية وتعطلّت سياسته الخارجية. ويستحيل ان يستعيد لبنان حياده قبل ان تستعيد الدولة قدرتها الدفاعية من دون شريك وتصبح المقرّر في السياسة الخارجية ربطاً بالمصلحة اللبنانية العليا. فالترابط عضوي بين البعدين الدفاعي والخارجي، حيث انّ الحياد سقط مع سقوط السيادة وفقدان الدولة أمرتها العسكرية منفردة.

وإذا كان يتعذّر على لبنان اليوم ان يستعيد مقوماته الدفاعية في ظلّ رفض «حزب الله» تسليم سلاحه، فإنّ الخيار الوحيد المتبقّي أمامه مرحلياً، ان يضع يده على السياسة الخارجية بعيداً من هيمنة الحزب على هذه السياسة. ومعلوم انّ النظام السوري كان يعتبر انّه هو من يحدِّد السياسة الخارجية للبنان في القضايا الأساسية، وقد استفاد هذا النظام في زمن الرئيس حافظ الأسد من علاقات الأخير مع الرياض وطهران وحاجة واشنطن إليه، لعقد سلام مع تل أبيب، من أجل ان يُمسك بالقرار الخارجي اللبناني ويفاوض عن دمشق وبيروت معاً.

والنقلة النوعية في المواجهة السياسية التي تحققت مع خروج الجيش السوري من لبنان تمثلّت بتحرير نصف القرار السياسي للدولة، خلافاً للوضع إبان الاحتلال السوري، حيث كان قرار كل الدولة في دمشق، وقد توسّل «حزب الله» كل الأساليب لإعادة الوضع إلى ما قبل العام 2005 ولكنه لم يفلح، على الرغم من إمساكه بالسلطة التنفيذية كاملة للمرة الأولى لدى إسقاطه حكومة الرئيس سعد الحريري من منزل العماد ميشال عون في الرابية، وعلى الرغم أيضاً من حصوله على الأكثرية النيابية في استحقاق 2018 وانقلاب الرئيس عون على ما كان أعلنه بأنّه سيكون الرئيس الجسر بين اللبنانيين لا المنحاز والطرف، ولو تصرّف منذ بداية عهده على غرار ما فعله مع بيان الخارجية الذي دان الاجتياح الروسي لما وصل لبنان إلى ما وصل إليه، ولما تعرّض لعزلة خليجية، وهو انتُخب بعد فراغ طويل من أجل ان يعيد للدولة مقوماتها السياسية وليس ان يتخلّى عنها لمصلحة حليفه الحزب.

وما يجب تسجيله، انّ التباين في الموقف الخارجي لم يحصل بين «حزب الله» ووزير خارجية ينتمي إلى قوى 14 آذار مثلاً، إنما الخلاف وقع داخل الصفّ الواحد. وليس بالصدفة انّ وزارة الخارجية لم تؤول يوماً، حتى بعد انتفاضة الاستقلال، إلى شخصية سيادية، إنما بسبب حرص الحزب على الإمساك بالبُعد العسكري عن طريق تنظيمه مباشرة، والبُعد الخارجي عن طريق تحالفاته، وذلك من أجل إبقاء الاستراتيجيتين الدفاعية والخارجية تحت سيطرته ويتكاملان في الهدف نفسه. وما حصل مع بيان وزير الخارجية عبدالله بو حبيب، انّه سلّط الضوء على مسألة بغاية الأهمية، وهي ثلاثية رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزير الخارجية، حيث انّ اتفاقهما على سياسة خارجية واحدة، قادر على تحديد معالم هذه السياسة وإعلانها بمعزل عن فيتو «حزب الله» واعتراضه.

ويدرك «حزب الله» جيداً انّ ترسانته العسكرية غير كافية ما لم يضمن الغطاء الرسمي والشرعي لسلاحه، ومن هنا أهمية الانتخابات النيابية من أجل نزع هذا الغطاء عن الحزب ومنعه من التأثير على السياسة الخارجية، بانتظار تسوية إقليمية او مؤتمر دولي حول لبنان، تستعيد عبره الدولة استراتيجيتها العسكرية. ولكن ما هو ممكن اليوم ومتاح، انتزاع الأكثرية النيابية بغية تكليف رئيس حكومة وتأليف حكومة وانتخاب رئيس للجمهورية يُسترد عبرهم قرار لبنان الخارجي، بمعنى انّ الاستثناء الذي حصل مع بيان بو حبيب يجب ان يتحول إلى قاعدة.

فالخلل في المعادلة الداخلية بدأ مع التخلّي عن سياسة ربط النزاع في كل ملف وقضية وعنوان، ولو تمّ الحفاظ على هذه السياسة لما تدهورت الأمور بهذا الشكل، والدور الأساسي للأكثرية الجديدة إحياء سياسة ربط النزاع من أجل منع تأثير «حزب الله» على السياسة الخارجية وكل ما يسيء إلى علاقات لبنان الخارجية، وبانتظار ان تحسم التطورات مسألة سلاحه الذي يدعّي بأنّه للمقاومة، فلا يجب ان يكون له اي تأثير على دور الدولة الداخلي والخارجي، ولا يجب الخشية من استخدامه السلاح في الداخل مجدداً منعاً لتمدُّد مشروع الدولة، لأنّ استخدامه لهذا السلاح يسرِّع في انعقاد المؤتمر الدولي لإنهاء السلاح غير الشرعي.

وعلى رغم التباين الروسي-الإيراني من أحداث أوكرانيا، وعدم حماسة طهران للاندفاعة العسكرية الروسية، إلّا انّ «حزب الله» اعترض بشدة على بيان الخارجية اللبنانية، فيما كان باستطاعته تجاهل الأمر طالما انّ طهران غير متحمِّسة للمغامرة الروسية. ولكن هناك ثلاثة أسباب أساسية خلف انزعاجه فاعتراضه على بيان بو حبيب:

السبب الأول، كونه يريد ان يكون الموقف اللبناني مماثلاً للموقف الإيراني، وبمعنى آخر، ألّا يُتخّذ اي موقف من أحداث أفضت إلى انقسام دولي واضح، وان يكون لبنان جزءاً لا يتجزأ من اصطفاف أميركي-أوروبي-عربي يشكّل نقيضاً للمحور الذي ينتمي إليه، لأنّه يعتبر انّ اصطفافاً من هذا النوع يشكّل خطراً مستقبلياً عليه.

السبب الثاني، لأنّه يريد ان تكون السياسة الخارجية في خدمة دوره وسياساته، وان تكون هذه السياسة تحت سيطرته، فتفاجأ انّه مع حدث بهذه الأهمية يشكّل تحولاً على المستوى الدولي ويمكن ان تكون له ارتدادات إقليمية مباشرة وتحديداً لبنانية، تمّ اتخاذ موقف ليس بمعزل عنه فقط، إنما يتناقض مع توجّهاته.

السبب الثالث، لأنّه وجد انّ قراراً بهذه الأهمية يمكن اتخاذه دستورياً بالتنسيق والتشاور بين رئيسي الجمهورية والحكومة ووزير الخارجية من دون العودة إلى مجلس الوزراء، حيث بإمكانه بشكل او بآخر، الحؤول دون اتخاذ موقف من هذا القبيل، علماً انّه لا يستطيع تعطيل قرار مماثل سوى في حال كانت الأغلبية الوزارية معه، وبالتالي أدرك ضرورة ان يكون رئيس الجمهورية او رئيس الحكومة او وزير الخارجية منفّذاً لسياساته، تداركاً لموقف خارجي لا يستطيع تعطيله من داخل الحكومة مجتمعة ولو من خلال توقيع وزير المال.

وبمعزل عن الخلفيات الكامنة وراء بيان الخارجية، وما إذا كان ينمّ عن رسالة من رئيس الجمهورية إلى «حزب الله»، بأنّ عدم تسهيله ملفي الترسيم وخلافته رئاسياً، سيدفعانه إلى المزيد من التماهي مع الموقف الأميركي. وبالتالي بمعزل عن ذلك، فإنّ بيان الخارجية اللبنانية لا يعدّ خروجاً عن سياسة «النأي بالنفس»، إنما يندرج في إطار الالتزام بمبادئ الشرعية الدولية والقانون الدولي التي تشكّل الضمان الأساسي لحماية السلم والانتظام الدوليين وسلامة أراضي الدول الصغيرة. فلا يجوز بتاتاً أن تدخل أي دولة الى دولة أخرى تحت أي حجة او ذريعة تحقيقاً لأهدافها، وما قامت به موسكو يشكّل انتهاكاً للشرعية الدولية. ولا يجوز ان ينأى لبنان بنفسه عن كل ما يشكّل خروجاً عن هذه الشرعية التي تلقّت ضربة موجعة بسبب ظهورها أكثر فأكثر عاجزة عن صون السلم الدولي، ما يستدعي تعديلاً جوهرياً في نظام الأمم المتحدة لتمكينها من فرض القانون الدولي بالقوة، لأنّه لم يعد من قيمة للقرارات الدولية، والعالم يتجّه بفعل التراخي نحو حرب عالمية ثالثة او نحو مزيد من شريعة الغاب، حيث يستقوي الأكبر على الأصغر.