IMLebanon

ساحة الشهداء… خواءٌ يسْكنه صدى الثورة المكسورة

جاء في “الراي” الكويتية: 

وحدها عشرات اليمامات في الساحة تتنقّل بهدوء، تأكل وتطير، تعطي لساحة الشهداء ومتفرعاتها نوعاً من الأمل والبسمة.

تحت شتاءٍ كأنه يحاول أن يغسل المدينة من خطايا أبنائها… دم الاغتيالات ورماد انفجار المرفأ وحرائق الدواليب في تظاهرات 17 تشرين الاول… هنا يرتفع تمثال الشهداء تنساب عليه مياه الأمطار، مفتقداً هتافات آلاف الشبان والشابات الذين تجمّعوا حوله في عام 2005 ولاحقاً في 2019. التمثال البرونزي الذي كان ترميمه وعودته إلى وسط العاصمة إيذاناً بمرحلة السلم الأهلي، تحوّل مجدداً رمزاً للحرية والاستشهاد في سبيل «الحرية والسيادة والإستقلال».

لمرتين عادت شعلته المعدنية حيّة وكأن نارها مشتعلة، فيما آلاف اللبنانيين يهتفون من حولها مطالبين بكرامتهم. ما زال تمثال شهداء مشانق عام 1914 والأحكام العرفية العثمانية واقفاً، لكن منذ العام 2005 وبعده في 2019 صار له رفيقان قبالته بعدما أضيفا كمعالم لمعركة الحرية المستمرة منذ مئة عام وأكثر: ضريح الرئيس رفيق الحريري وقبضة الثورة، ومعها علم لبنان يرتفع عالياً وسط الساحة.

لكن وحدة هذا الثلاثي أصبحت قاتلة. لا جيران. ولا أحبة. بعدما هجر الجميع المكان تباعاً، ثوار ومتظاهرون، وأرباب أعمال ومؤسسات، ورواد المطاعم والمقاهي القريبة من الساحة ومتفرعاتها. حتى عشاق سهرات الثورة وأغنياتها وخيم الحوار المنصوبة تركوا المكان، تحت وطأة موجات القمع والعسكرة والأحزاب. لم يَبْقَ من مشهد ساحة الشهداء عام 2005 سوى ضريح الحريري ورفاقه شاهداً على أن زلزلاً دمّر بيروت في 14 شباط 2005، قبل ان يدمّرها زلزال آخَر في 4 آب 2020. الإطلالةُ على ساحة الشهداء في 14 مارس الحالي، بعد ساعات على قرار ثانٍ للمحكمة الدولية في شأن اغتيال الرئيس رفيق الحريري دان عضوين آخريْن من «حزب الله»، لا تنفصل عن الإطلالة على مرفأ بيروت، وهي التي تضررت بفعل عصف الانفجار الذي طال كل الأبنية التي عادت إلى الحياة بعد إنتهاء الحرب عام 1990.

فالانفجار الذي أودى بحياة أكثر من مئتي لبناني وجرح الآلاف منهم وأطاح بنصف العاصمة، وقع حيث الساحة مفتوحة على البحر قبالة المرفأ الذي تدمّر. لكن حركة إعمارٍ خفيفة تحوط بالمكان الذي ما زال يعيش تحت وطأة الأضرار والترميم البطيء، فيما أبنية أخرى ما زالت ترزح تحت وطأة الخراب وبعض المؤسسات أقفلت نهائياً.

فندق «لوغراي» يرفع اعتذاراً لاضطراره للاقفال وهو الذي سبق أن عانى من وطأة الصدامات بين القوى الأمنية والمتظاهرين ومعارضيهم، فطُوّق المبنى بألواح حديد مع المواجهات التي وقعت إبان انتفاضة 17 تشرين الأول 2019. مثله مثل مؤسسات تجارية ومكاتب ارتدت الأسود وكأنها في حِداد من حديد فأقفلت كما الطرق أبوابها حتى في محيط الساحة التي تملأها أسلاك شائكة ينتشر الجيش اللبناني حولها عازلاً مقر البرلمان في ساحة النجمة.

والعودة إلى ساحة الشهداء، لا تنفصل كذلك عن تداعيات انتفاضة 17 تشرين الأول، التي ملأت الساحة برايات الثورة وأغنياتها والشعارات المرتفعة على الجدران المحيطة بالمكان، وبصورة جدارية عن الأمل وكتابات وخطوط وألوان على ألواح رُفعت لحماية الممتلكات.

كل الطرق المؤدية إلى الساحة أشبه بكتاب من ألوان وصور، على جدرانها آلاف الرسوم والشعارات الناقمة على تدمير العاصمة والاغتيالات والنهب والفساد، تعكس نبضاً أراد أن يؤرّخ لمرحلة جميلة من عمر لبنان.

لكن الألوان والوجوه المرسومة وصرخات الغضب لا تلغي ان الساحة تبدو حزينة، عشية 14 آذار، وهي ليست سوى فراغ قاتل، ومواقف سيارات وحركة مرور خفيفة ومشاة يخرجون مما تبقى من مكاتب ومؤسسات وعائدون إلى منازلهم. ظلام العاصمة ووسطها الموحش، يعطي وجهاً مختلفاً عما عاشته قبل 17 عاماً. إنه الوجه الحزين للمدينة التي غابت عنها حتى لوحات الإعلانات وإشارات السير الضوئية. طرقها المملوءة حفراً وسواداً نتيجة قطع الطرق وحرق الدواليب. بضع لوحات انتخابية، وبضع سيارات أجرة، ومواقف السيارات هي وحدها التي تدل على مظهر لحياة ما.

يوم الجمعة في بيروت حيث الصلاة في مسجد محمد الأمين، ويوم الأحد حيث الصلاة في كنيسة مار جرجس، وبضعة مقاهي تشهد بعضاً من الزوار، تعيد إلى ساحة الشهداء نوعاً من الحياة. لكن ما تبقى لا يشبه ما حصل في 14 مارس عام 2005، بعد شهر من جريمة اغتيال رفيق الحريري. ففي مثل هذه الأيام قبل 17 عاماً، كان تمثال الشهداء في وسط بيروت، يكاد لا يصدّق أنه لم يعد وحيداً، مرتفعاً وحاملاً شعلة الحرية، وسط غابة من مئات الآف اللبنانيين الذين يحوطون به. بعضهم يرفع علم لبنان عليه، وبعضهم يُنْشِدُ أمامه وبعضهم يلوّح بالأعلام أو يرفع الصلاة، وفي أيدي المتظاهرين الأعلام، وعلى أعناقهم شارة ثورة الأرز البيضاء والحمراء. تحولت ساحة الشهداء إلى مدّ بشري يتدفق إليها من الشمال والبقاع والجنوب وجبل لبنان. فعادت بيروت عاصمة الجميع، تودّع الآلاف وتستقبل الآلاف، يأتون يومياً اليها حاملين شعارات أصبحت مُرادِفة لمرحلة «انتفاضة الإستقلال» ورموزها. في وسط العاصمة آنذاك لم تعد الوجهة التعبير عن الغضب لاغتيال الحريري والمطالبة بمعرفة قاتليه فحسب. فالبلاد انتقلت سريعاً من مرحلة إلى أخرى مع تَجَمْهُرِ قوى سياسية في ساحة رياض الصلح تضامناً مع النظام السوري قبل أن تنفجر في 14 آذار الغضبة في الساحة المقابلة (ساحة الشهداء) مطالبة بخروج الجيش السوري. لم تعرف تلك الساحة بعد الحرب عزاً كما عرفته حينها. فنانون وشعراء وطلاب وعمال وموظفون وسياسيون، شيوخ وكهنة وراهبات، نساء ورجال وأطفال، وخيم منصوبة وأغنيات تصدح في الفضاء الشاسع، وصلوات ترتفع، وشخصيات ما زالت إلى الآن خطبها تُعَدُّ أفضل تعبير عن مرحلة تاريخية من عمر لبنان، ضد سورية وضد«حزب الله» وضد قتلة الحريري.

لكن الثورة حينها كانت أيضاً عبارة عن التقاء آلاف اللبنانيين تحت خيمة الحرية. شخصياتٌ سيادية تلتقي وتناقش وتجتمع على مقربة من المكان، تلتقي وتخطب وتغادر ويبقى الآلاف. حماسةُ المتظاهرين وصرخاتهم، وافتراشهم الأرض والخيم، وصوتٌ واحد يعلو للمطالبة بالحرية. كل الآتين إلى بيروت وجدوا في ساحة الشهداء متنفساً لهم، من دون أحزاب ولا طوائف، ومستقبل واحد، انكسر لاحقاً مع تَجَرُّع التسويات وسقوط الآمال.

ماذا بقي من بيروت وساحة الشهداء بعد 17 عاماً، على اغتيال الحريري؟ على مقربة من الساحة حيث انتصبت الخِيَم، كان مسجد محمد الأمين الذي احتضن ضريح الحريري ورفاقه يتحول كل يوم محجة للبنانيين مسيحيين ومسلمين، يصلّون أمامه ويضيئون الشموع ويحملون الورود. أمام الجامع اليوم، الحركة بطيئة والزوار قليلون. أقفل «فيرجين» أحد أفضل أمكنة الموسيقى والكتب، والشاهد على تدفق الآلاف، وأقفلت المطاعم وارتفعت ألواح الحديد. بين عام 2005 وعام 2019،… بعد 17 عاماً، صارت الساحة ذكرى لجيل تظاهر ونادى وصرخ فحصل على الاستقلال الثاني، لكنه انتقل من سلطة إلى سلطة تمعن فيه إذلالاً. فكانت الساحة التي عادت في احتجاجات 17 تشرين الأول 2019 إلى تألُّقها وحياتها… آلاف اللبنانيين تجمعوا في مشهد مماثل لِما حصل بعد اغتيال الحريري. لكن مرة جديدة تمكنت السلطة من المتظاهرين فغادروا الساحة التي بقيت فارغة من اللبنانيين الذين كُسروا أكثر من مرة.

بعد 17 عاماً، ليل بيروت أصبح مظلماً، ونهارها لم يعد ممتعاً. بل مجرد حركة لا حيوية فيها. وساحة الشهداء أصبحت وحيدة مجدداً، رغم أن جدرانها تحتضن صور الشهداء. الحياة متوقفة فيها. لكن المأساة حية ومستمرة… ولا يبدو أنها ستنتهي قريباً.