IMLebanon

حروب ودماء طمعاً بالنفط

كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:

ثمة قاعدة تقول إنّ الحروب تُقاس بنتائجها وليس ابداً بطريقة انطلاقها. بمعنى آخر، لا يمكن قياس الأرباح والخسائر طالما انّ اصوات المدافع لا تزال تُدوّي، فلا بدّ من انتظار النهاية لجلاء الصورة وتقييم النتائج. وانسجاماً مع هذا المبدأ، فإنّ من المبكر التكهن بنتائج الزلزال الذي ضرب اوروبا انطلاقاً من حرب اوكرانيا. وعملية التطهير التي بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتنفيذها على مستوى الضباط الكبار والمسؤولين في الجيش والأجهزة العسكرية والأمنية على خلفية البداية المتعثرة لحرب إخضاع اوكرانيا، تُظهر أنّه لن يتراجع عن هدفه، وانّه يعيد تنظيم صفوفه لإنهاء ما بدأه.

الواضح انّ بوتين يعمل على محاسبة من اتهمهم بتزويده معلومات خاطئة عن الوضع في اوكرانيا قبل الغزو، وبأنّ الحرب ستكون سريعة وسهلة، وأعطوه تقييماً خاطئاً للوضع. ذلك انّ الفشل في شن حرب قصيرة، سمح للحكومات الغربية، تحت ضغط مواطنيها، بفرض عقوبات قاسية على الاقتصاد الروسي.

صحيح انّ غالبية الروس ما زالت تؤيّد الحرب الدائرة في اوكرانيا، الّا أنّ هذه الغالبية باتت تناهز نسبة الـ 60%، وهي غالبية غير مريحة فعلياً.

القيادة الروسية تحاول التعويض عن الخسائر البشرية من خلال فتح باب التطوع للأجانب للمشاركة في القتال. أما التعويض الاقتصادي فله مشروع آخر يطاول الشرق الاوسط ويتأثر به لبنان. لكن قبل ذلك، فإنّ الوضع الاميركي الداخلي بدأ بدوره يتأثر. ففيما أظهرت الاستطلاعات في بداية الحرب تأييد نحو 80% من الديموقراطيين والجمهوريين على حدّ سواء، دعم اوكرانيا ضدّ روسيا ولكن مع محاذرة التورط المباشر، فإنّ آخر الاستطلاعات أظهر انّ دعم الجمهوريين بدأ يتراجع، على ضوء ارتفاع اسعار المحروقات بسبب العقوبات المفروضة.

صحيح انّ الاميركيين يعتقدون أنّ روسيا تريد إعادة رسم حدود الاتحاد السوفياتي، وهو ما جعل 55% من الديموقراطيين والجمهوريين على حدّ سواء يؤيّدون إرسال قوات لتعزيز دول حلف «الناتو» في اوروبا الشرقية، ولكن من دون التورط في إرسالها الى اوكرانيا، لكن القلق الاقتصادي الناجم عن العقوبات القاسية على روسيا بدأ يقلقهم. ويجب الّا يغيب عن بالنا، أنّ توقيت الحرب جاء مع بدء التعافي الاقتصادي، بعد انكماش حاد بسبب جائحة كورونا. فارتفاع اسعار الطاقة بسبب نقص الإمدادات، سيسدّد ضربة قوية للاقتصاد العالمي، خصوصاً لأصحاب الدخل المتوسط والضعيف.

وتعود نقطة الارتكاز الأهم الى السيطرة على منابع النفط والغاز، كسبيل للإمساك بالشريان الاقتصادي العالمي. فعندما ضمّت روسيا شبه جزيرة القرم في العام 2014 زادت من قوة ونفوذ اسطولها البحري على البحر الاسود. ومع غزو اوكرانيا في 24 شباط الماضي، عززت موسكو حضورها وسيطرتها على البحر الاسود، بعد ان احتلت القوات الروسية وفي اول خطواتها الحربية كل الموانئ الأوكرانية.

التخطيط الروسي كان واضحاً في وضع لائحة الأهداف التي يسعى اليها. فمن خلال السيطرة على البحر الاسود سيصبح تأثير الاسطول الروسي أكبر على البحر الابيض المتوسط، وخصوصاً على الساحل الشرقي منه، حيث اكتشافات منابع الغاز. لكن ثمة عائقين أمام موسكو لتحقيق أهدافها هذه.

الاول، يقضي بتوسيع اسطولها البحري وتعزيزه ليصبح اكثر قوة، وهو ما ستتكفل به المصانع الحربية الروسية. والثاني، في طريقة تطويع تركيا التي تسيطر على مضيق البوسفور، حيث الممر الإجباري للوصول الى القاعدة البحرية الروسية في طرطوس عند الشاطئ السوري.

في العام 1936 تمّ وضع اتفاقية مونترو التي لحظت قيوداً على حركة السفن العسكرية، والمقصود الأساسي فيها الاسطول السوفياتي. وإبّان الحرب الباردة بين العملاقين، تمّ تعزيز الحضور العسكري التركي، بعد ان تمّ ضمّ أنقرة الى حلف «الناتو». وجرى بناء إحدى اكبر القواعد العسكرية الاميركية وهي قاعدة «انجرليك».

الواضح انّ الوظيفة التي أُوكلت الى تركيا يومها، كانت تقضي بأن تشكّل سداً قوياً ومنيعاً أمام تمدّد الاتحاد السوفياتي في اتجاه منابع النفط في الشرق الاوسط، وتولت اسرائيل لعب دور خط الدفاع الثاني.

وبعد تمدّد بوتين في البحر الاسود، وآخرها من خلال السيطرة على موانئ اوكرانيا، اصبحت تركيا وروسيا على تماس مباشر وعلى تناقض في الأهداف. فتركيا تسعى أيضاً الى أن يمرّ خط الغاز من مصر الى اوروبا من خلالها، وهذا ما يشكّل جوهر التقارب التركي ـ الاسرائيلي مجدّداً.

وثمة خط تماس آخر بين روسيا وتركيا وهو في سوريا، حيث تعارض المصالح السياسية بين النظام الذي تشد أزره وتدعمه موسكو، والمجموعات المعارضة الموالية لتركيا في إدلب وشمال سوريا. أضف الى ذلك، ملف الأكراد. من هنا فإنّ لروسيا مصلحة في حقول الغاز الموجودة شرق البحر المتوسط، بما فيها الحقول اللبنانية.

ومنذ ايام زار الرئيس الاسرائيلي اسحاق هرتزوغ تركيا، حيث التقى نظيره رجب طيب اردوغان، في اول زيارة لمسؤول اسرائيلي كبير منذ 14 عاماً، وهو ما اعتُبر نقطة تحول في العلاقات بعد سنوات صعبة.

إردوغان قال خلال المؤتمر الصحافي المشترك في ختام الزيارة، إنّ التطورات الاخيرة التي تتكشف في منطقتنا تُظهر مرة جديدة أهمية أمن الطاقة. وكشف عن زيارة قريبة لوزير الطاقة الاسرائيلي. والاستنتاج واضح بأنّ ملف الغاز شكّل مادة أساسية في اللقاء. وهو أراد ان يقول إنّ خط الغاز اصبح أكثر الحاحاً بعد اوكرانيا. لكن هذا التفاهم او التقاطع التركي ـ الاسرائيلي بحاجة لسياسة متوازنة بين واشنطن، الحليف القوي، وروسيا «الدب الغاضب» والمجاور لكليهما. لذلك دعمت أنقرة اوكرانيا ديبلوماسياً وببعض العتاد، لكنها لم تنضمّ الى رزمة العقوبات الاقتصادية على روسيا. ويبدو انّها ستلتزم «اتفاقية مونترو» ولكن بطريقة مرنة وغير مؤذية لروسيا. فتركيا تدرك ايضاً انّ بوتين قادر على إثارة الشغب في وجهها بعمل عسكري في سوريا، سيدفع بالسوريين الى التدفق واللجوء الى اراضيها. وايضاً هي قادرة على وضع عقوبات تجارية وسياحية على تركيا، ما سيفاقم الأزمة الاقتصادية.

أضف الى ذلك، انّ اليونان وقبرص خصمتا تركيا في البحر المتوسط، وترحّبان بحضور أقوى لروسيا في البحر.

وفي موازاة ذلك، فإنّ اسرائيل تنتهج سياسة حذرة ما بين موسكو وواشنطن، والتي تؤيّدها نسبة 67% من الاسرائيليين. وتتذرّع اسرائيل أمام الاميركيين بأنّها تستغل علاقاتها للعب دور الوسيط بين روسيا واوكرانيا، وفي ذلك مصلحة لأوكرانيا خصوصاً. وهذا ما سمح لاسرائيل باجتذاب النخبة «الاوليفر» شبه الروسية الخائفة على ثرواتها. وسُجّل على سبيل المثال وصول 14 طائرة روسية خاصة الى اسرائيل قادمة من بطرسبورغ تجنّباً للعقوبات الغربية. الّا انّ إشارتين إيرانيتين لم تجدا تفسيراً واضحاً لدى الاوساط الغربية. الاولى وتتعلق بالقصف الصاروخي الذي تعرّضت له القنصلية الاميركية في اربيل. لكن صحيح انّ الصواريخ هي بالستية، لكنها لم تكن من النوع الدقيق، أي انّها ليست متطورة كفاية. والمقصود عدم الإصابة المباشرة. وكذلك، فإنّ انطلاقها من الأراضي الايرانية يعني الكشف في وضوح عن المصدر، وهي من المرات النادرة، فيما كانت ايران سابقاً تتلطّى خلف تنظيمات عراقية شيعية.

لكن السؤال كان عن فحوى الرسالة. فالاتفاق النووي تعرقله موسكو وليس واشنطن. في وقت يعتقد البعض أنّه ربما يكون فصيلاً ايرانياً متشدّداً خارجاً عن السيطرة ومعارضاً للاتفاق النووي، خصوصاً انّ مكان إطلاق الصواريخ يُعتبر منطقة نائية نسبياً.

اما الإشارة الثانية، فتتعلق بدخول الأمين العام لـ»حزب الله» المباشر ضد اقتراح هوكشتاين للترسيم البحري، فيما اكتفى «حزب الله» في السابق بالسكوت وعدم التعليق. وبالتالي، السؤال هو حول أسباب التبدّل في الموقف والغاية الحقيقية منه؟ وهذا ما دفع باسرائيل الى تعزيز موقفها حول التواصل مع موسكو، من خلال طرح فكرة، انّ توسيع حصة روسيا في استخراج الغاز اللبناني سيعزز الضمان المطلوب في وجه «حزب الله». صحيح انّ هنالك دوراً لشركة روسية هي «نوفاتيك»، لكن قد يكون لتوسيع الدور فائدة اكبر كضمان، ويمكن انّ أبواب المقايضة لاحقاً في مناطق أبعد مثل سوريا ولوظائف اكثر، خصوصاً إذا كانت ايران تسعى الى دور مباشر لها.

كل ذلك يشير الى الخلفيات النفطية للبركان الاوكراني. أضف الى ذلك، انّ من السذاجة في مكان التعاطي بتبسيط الحرب في اوكرانيا