IMLebanon

أي خلفيات لعزوف العازفين؟

كتب طارق ترشيشي في “الجمهورية”:

قراءات كثيرة خضع لها عزوف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي عن الترشح للانتخابات النيابية، وبعده وقبله عزوف رؤساء الحكومة السابقين فؤاد السنيورة وسعد الحريري وتمام سلام. وقد حلّلت هذه القراءات أبعاد هذا «العزوف» الجماعي وخلفياته، رغم تشديد العازفين على دعوة أبناء الطائفة الاسلامية السنّية الى المشاركة في الاقتراع لعدم ترك الساحة للفراغ.

خلص القارئون من قراءاتهم لهذا العزوف الرباعي الى احتمالين اثنين:

ـ الاول، انّ عزوف الرؤساء الاربعة الذي كان عزوفاً منفرداً، الواحد منهم بعد الآخر، وهم من أكبر وأبرز القيادات السياسية في الطائفة السنّية عن الترشح للانتخابات، كان مردّه الى معطيات توافرت لديهم تصبّ في اتجاه انّ الانتخابات مهما بلغ حجم الاستعداد لها آيلة للتأجيل، وهم يدركون انّ عزوفهم عن الترشح لها سيؤدي حتماً الى إحجام الناخبين السنّة بغالبيتهم عن الاقتراع فيها، رغم دعواتهم إليهم إلى هذا الاقتراع و«عدم ترك الساحة للفراغ والطارئين». أو انّ هذه المعطيات تشير الى انّ الانتخابات ستعيد إنتاج الواقع الحالي، من حيث امتلاك «حزب الله» وحلفائه الأكثرية النيابية التي لن يكونوا قادرين على التوازن معها، وبالتالي لن يكونوا قادرين على مواجهتها وإحداث اي تغيير في هذا الواقع الذي اتخذته الولايات المتحدة الاميركية وحلفاؤها الاقليميون والدوليون، ذريعة لفرض حصار على الحزب وحلفائه (حسبما يتهمونها)، وكان من أبرز الأسباب التي ادّت إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والمعيشي الذي تعيشه البلاد، والذي لم تقو لا حكومة الحريري ولا حكومة حسان دياب على وقفه، فيما حكومة الرئيس نجيب ميقاتي اليوم تحاول الحدّ منه، ولكنها لم تستكمل عدّة عملها بعد، من اتفاقات مع المؤسسات المالية الدولية ومع المجتمع الدولي ومن خطط إصلاحية، لدفع البلاد الى آفاق التعافي.

علماً انّ ميقاتي يميّز «غزوفه المنفرد» عن عزوف الحريري والسنيورة وسلام، في انّ موقعه كرئيس حكومة يفرض عليه هذا العزوف عن الترشح هو ووزراء حكومته، لضمان حصول الانتخابات بعيداً من أي مصلحة او تدخّل او صرف نفوذ لمصلحته ومصلحة أي من الوزراء في حال ترشحهم، ما يهدّد سلامة الانتخابات ونزاهتها.

ولكن الرأي العام وضع هذا العزوف الرباعي في إطار واحد، وانّ لكل من العازفين أسبابه ومبرراته، وهو انّ استنكافهم عن الترشح لاعتراضهم على واقع لم يتمكنوا من تغييره بأيديهم وألسنتهم، فلجأوا الى الخروج منه، وهذا «أضعف الإيمان»… مدركين مسبقاً انّ شرائح كثيرة من بيئتهم لن يكون لديها الحماسة للانتخابات ترشيحاً واقتراعاً، الّا من احتجوا على عزوفهم وقرّروا الخروج على توجّه العازفين وخوض الغمار الانتخابي بما تيسّر لهم من تأييد، في حين انّ في الطائفة من لم يستسغ الانسحاب من الساحة وتركها للآخرين من مثل من استقالوا من تيار «المستقبل»، معترضين على قرار الحريري تعليق العمل السياسي وعدم الترشح للانتخابات النيابية. وقبل هؤلاء، هناك قيادات سياسية سنّية في بيروت والمناطق، لا تؤيّد هذا الرباعي ولها نهجها وتوجّهها السياسي الخاص، ولم تتحالف يوماً، سياسياً او انتخابياً، مع أي من اقطابه، تستعد لخوض الانتخابات غير آبهة بما يمكن ان يكون لعزوفه وعدم مشاركته في هذا الاستحقاق الدستوري، معوّلة على الأخذ من رصيده لمصلحتها بنحو او آخر، خصوصاً إذا نجحت في استمالة السياسيين «المستقبليين» الذين خرجوا على طاعة الحريري ويملكون بعض الرصيد الشعبي الذي سيستخدمونه لدعم ترشيحهم في العملية الانتخابية.

ـ ثانياً، انّ رؤساء الحكومات بما يتمثلون ومن يمثلون، وفي ضوء جسامة الأزمة وخطورتها، ربما وجدوا انّ الأنسب لهم هو الانسحاب من الحياة السياسية في هذه المرحلة العصيبة التي يمرّ فيها لبنان، لاستحالة تمكنهم وآخرين من إيجاد الحلول الإنقاذية، ولذا قرّروا تجنيب سفنهم الحريق وترك الساحة لجيل جديد يمثل الطائفة السنّية في الندوة النيابية، بحيث يكون هذا التمثيل لمرحلة انتقالية تمتد لأربع سنوات او أقل، ليعودوا بعدها إلى الساحة متحرّرين من أي أثقال، بعد ان تكون اتضحت معالم الأوضاع داخلياً واقليمياً ودولياً، خصوصاً انّ المنطقة مفتوحة على احتمالات كثيرة اشبه بمرحلة تغيير دول، في ما يتصل بالأزمات والحروب التي تعصف بها، والتي يُقال انّ مفاوضات علنية وسرية تجري لإنتاج الحلول اللازمة لها، من الملف النووي الإيراني الى الجبهات المشتعلة في غير دولة عربية شرقاً وغرباً، ناهيك عن الحرب الروسية على اوكرانيا وتداعياتها على المنطقة والعالم، وما يمكن ان تسفر عنها في النهاية من نظام عالمي جديد، بعدما انتهى عصر الأحادية القطبية الاميركي، الذي حكم العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينات من القرن الماضي، وتفرّدت بعده الولايات المتحدة الاميركية في التحكّم بالزمام العالمي.

على انّ البعض ميّال الى ترجيح الاحتمال الاول، وهو صيرورة الانتخابات التأجيل، طالما انّ كل البوانتاجات التي تجري حتى الآن تُظهر انّ ما ستفضي اليه من نتائج ستكون فوز «حزب الله» وحلفائه بالأكثرية النيابية مجدّداً، وفي هذه الحال تكون الخطة (ب) لخصوم الحزب في الداخل والخارج، استخدام التأجيل، الذي سيفرض حتماً تمديد مجلس النواب ولايته بنفسه، ورقة ضده، بدءاً بالتشكيك بشرعية مجلس النواب الممدّد له، او الإقدام على الاستقالة منه، وهذه الاستقالة لوّح بها الحريري عندما سأله سائل عن موقفه في حال تأجيل الانتخابات وتمديد ولاية مجلس النواب. غير انّ البعض يقول انّ ما في البواطن لا يوحي بحصول استقالة من هذا النوع لدى الحريري وغيره، أولاً لأنّ البلاد في ظل حالة الانهيار التي تعيش لا تتحمّل حصول فراغ نيابي او وجود مجلس منتقص التمثيلز وثانياً، أنّ خصوم «حزب الله» وحلفاءه وحتى الجميع قاطبة، لا يضيرهم، كما قد لا يضير المجتمع الدولي ايضاً، تأجيل الانتخابات والتمديد للمجلس، فبغض النظر عن انّه سيكون تمديداً للأكثرية النيابية الحالية، فإنّه سيبقيهم حاضرين في الساحة، من خلال استمرار وجودهم في المجلس النيابي الممدد له، إذ لربما وجدوا ضالتهم في خلال الولاية النيابية الممدّدة، بحيث يغتنمونها فرصة لمعالجة مشكلاتهم مع الآخرين المعارضين لهم في الداخل والخارج، وإعادة ترميم واقعهم التمثيلي الذي تراجع شعبياً وسياسياً الى أدنى مستوياته. إذ انّ المشهد السياسي الماثل حالياً، أقنع البعض منهم بأنّ خوضهم الانتخابات في هذه المرحلة قد يكون قفزة في المجهول، نتيجة نقمة اللبنانيين على غالبية الطبقة السياسية التي يحمّلونها المسؤولية عن الانهيار الذي حلّ بالبلاد، وتحديداً منذ تشرين الاول 2019 وحتى اليوم. ولذا، يرى عدد من الأفرقاء السياسيين (في ما كان يُعرف بـ 8 و14 آذار) انّ التأجيل ربما يجنّبهم هذه الكأس المرّة، لأنّ من سيسقط هذه المرحلة سيكون سقوطه مدوياً وإلى ردح طويل من الزمن، لأنّ لبنان ما بعد تشرين الاول 2019 بات حتماً غير قبله، سواء جرت الانتخابات او مُدّدت ولاية مجلس النواب أياً كان حجم هذا التمديد.