IMLebanon

لا حلّ سوى بمؤتمر تأسيسي

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

يستحيل الوصول إلى حلّ للأزمة اللبنانية بالرهان على استفاقة الشعب اللبناني يوماً على بيان لـ»حزب الله» يعلن فيه تسليم سلاحه للدولة اللبنانية وانخراطه في مشروع الدولة تحت سقف الدستور، فهذا وهم لن يصبح حقيقة، والحقيقة انّه لا حلّ لهذه الأزمة سوى عن طريق مؤتمر دولي أو إقليمي برعاية دولية.

لا خلاف على التسمية أكانت تطبيق اتفاق الطائف او الذهاب إلى طائف جديد او الكلام عن عقد اجتماعي او مؤتمر تأسيسي، فكل هذه التسميات تؤشر إلى مضمون واحد وهو التغيير من خلال مؤتمر خارجي، لأنّ التغيير بحوار لبناني مستحيل، وأفضل من عبّر عن هذا التوجّه او الهدف هو البطريرك بشارة الراعي الذي قال منذ أيام قليلة «لأنّ اللبنانيين غير قادرين على الجلوس مع بعضهم البعض، يجب أن يكون هناك مؤتمر دولي كالطائف والجميع موافقٌ على ذلك رغم صعوبة إجرائه».

ولم يقل البطريرك الراعي «مؤتمر دولي كالطائف» عن عبث، إذ كان باستطاعته القول كالدوحة، ولكنه أصرّ على الطائف كون اتفاق الدوحة سلطوي الطابع وكان هدفه إعادة انتظام الحياة السياسية والمؤسساتية، فيما اتفاق الطائف تأسيسي الطابع ويتعلّق بنهائية لبنان ودوره، وما هو مطلوب اليوم ليس اتفاقاً سلطوياً على هوية رئيس الجمهورية المقبل ورئيس الحكومة وشكل الحكومة التي ستؤلّف، لأنّ أي اتفاق من هذا القبيل سيتمّ إجهاضه بعد فترة قصيرة جداً، فضلاً عن انّه لا يعالج عمق الأزمة اللبنانية، إنما المطلوب الذهاب إلى مؤتمر يجد حلولاً للإشكالية الإنقسامية الأساسية والرئيسية والوجودية المتمثلة بسلاح «حزب الله»، وأي كلام آخر مضيعة للوقت.

وانعقاد مؤتمر دولي غير كافٍ لوحده، لأنّه من غير المقبول وضع كل هذا الجهد الدولي وتضييعه في التطبيق، ما يعني وجوب وضع آليات دولية صارمة ومحدّدة زمنياً لترجمة الاتفاق على أرض الواقع، وإلّا يتمّ الانقلاب عليه كما تمّ الانقلاب على اتفاق الطائف.

فما تقدّم هو الهدف الذي يجب الوصول إليه لإخراج لبنان من ورطته ومحنته، لأنّ كل فلسفة التعايش مع الفريق الآخر باءت بالفشل، وقد حان الوقت لفك الارتباط معه في الانتخابات الرئاسية التي تشكّل مدخلاً لإعادة تركيب البلد بدءاً من رأس الهرم على أسس جديدة، وبالتالي يُفترض ان تشكّل الانتخابات النيابية فرصة لتعزيز الخط السيادي وتقويته، والسعي بالحدّ الأدنى إلى الخروج بكتلة متراصة تمنع الفريق غير السيادي من امتلاك أكثرية الثلثين، وهو مستحيل عملياً لكلا الفريقين، كون امتلاكه لهذه الأكثرية يتيح له انتخاب رئيس للجمهورية، كما السعي بالحدّ الأقصى إلى امتلاك النصف زائد واحد، ما يحرمه من القدرة على التكليف والتأليف، وفي مطلق الأحوال الحاجز الدستوري الذي يجب الاعتناء بمفاتيحه جيداً هو الانتخابات الرئاسية، لأنّ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون سينقل الحكومة تلقائياً إلى حكومة تصريف الأعمال في حال تشكّلت بعد الانتخابات النيابية ويفتح باب الفراغ بانتظار التسوية على الرئيس الجديد، التي تفتح الباب أمام إعادة تركيب السلطة.

ومن غير المسموح التفريط بالحاجز الدستوري الرئاسي، لأنّه إحدى الأوراق الأساسية التي تقود إلى المؤتمر الدولي، لأنّ هذا الفراغ سيؤدي إلى مزيد من الفوضى الدستورية والانهيار والشلل والانقسام والعزلة، ويؤدي إلى تقوية دعوة البطريرك لعقد مؤتمر دولي، وبالتالي مهمة الانتخابات النيابية الرئيسية الوصول إلى كتلة سيادية تخيِّر الفريق غير السيادي بين الفراغ المفتوح، او إنتاج السلطة بشروطها، الأمر الذي لن يقبله حكماً، ما سيقود حتماً إلى تسريع الانهيار وتدخُّل المجتمع الدولي لعقد مؤتمر من أجل لبنان.

وقد يقول قائل، انّ هذه المقاربة نظرية، ولكن الشق العملي والواقعي فيها انّ الحاجز الرئاسي، الذي بات على مسافة أشهر قليلة، سينقل البلد إلى ستاتيكو جديد، ويولِّد دينامية صراعية جديدة، والتحدّي فيها بعدم الرضوخ تحت اي حجة او عنوان بدءاً من ضرب الاستقرار، لأنّه بقدر ما يسرِّع في هزّ الاستقرار والانفجار، بقدر ما يسرِّع في انعقاد المؤتمر الدولي، ما يعني انّ الفريق غير السيادي أصبح أمام معادلة خاسر-خاسر، فلا هو قادر على تركيب السلطة منفرداً، ولا هو في وارد التسليم للفريق السيادي بتركيبها، وبالتالي، وضع نفسه أمام معادلة المؤتمر الدولي أمامه والفوضى الدستورية خلفه، وهذه الفوضى تعني انهيار جمهورية الممانعة على رأسه.

وما يجب الاستفادة منه والتعويل عليه بعد الانتخابات النيابية، هو موقف الرئيس سعد الحريري الذي ربط اعتكافه النيابي بالاحتلال الإيراني، وكل بيانات تياره راديكالية في مواجهة طهران وأذرعها، وبالتالي ما كان يمكن توصيفه بالموقف الانسحابي من الانتخابات، يمكن التأسيس عليه بعد الانتخابات، من أجل الطلاق السلطوي مع الفريق الآخر تمهيداً لإعادة تركيب البلد.

وكان يُستحسن طبعاً لو انّ الحريري خاض الانتخابات من أجل ضمان حصول الفريق السيادي على الأكثرية، بما يضمن عدم قدرة الفريق الآخر على الاحتفاظ بالشرعية الدستورية، وأعلن بعد الانتخابات انطلاقاً من حيثيته السنّية، رفض التكليف فالتأليف مع العهد الحالي، وربط النزاع في الاستحقاق الرئاسي، رفضاً لأي تسوية رئاسية-سياسية لا تعيد إلى الدولة اعتبارها. ولكن ما حصل قد حصل، والتحدّي أمام القوى السيادية ان تستعيد حرارة التواصل بين مكوناتها وان تستفيد من موقف الحريري والبناء عليه للقطع السلطوي مع الفريق الآخر. فما وصل إليه الحريري يجب ان تصل إليه كل القوى السيادية بعد الانتخابات، باشتراطها تسليم «حزب الله» لسلاحه كمقدمة لإعادة إنتاج السلطة وإلّا الفراغ المفتوح.

فما بين الشرعية المعنوية للحريري ورؤساء الحكومات، وموقف البطريرك الداعي إلى مؤتمر دولي، وقطع القوى السيادية التي تخوض الانتخابات الطريق أمام الفريق غير السيادي لإنتاج السلطة منفرداً، والحاجز الرئاسي الذي لا يمكن تخطّيه وتجاوزه من دون تسوية سياسية، فإنّ البلاد تكون قد أصبحت على مشارف التدخُّل الدولي لعقد مؤتمر دولي من أجل لبنان. ولكن التحدّي الأساس هنا يقع على القوى السيادية، كونها ستكون أمام فرصة لن تتكرّر سوى بعد عقود ربما، وبالتالي فرصتها ان ترفض اتفاقاً سلطوياً كاتفاق الدوحة، وتتمسّك بالسقف الذي حدّده الراعي بقوله: «يجب أن يكون هناك مؤتمر دولي كالطائف»، من أجل ان يعالج هذا المؤتمر إشكالية السلاح، وكل ما هو خلاف ذلك يعني استمراراً للأزمة بكل أوجهها، فيما تكتيك الفريق الآخر أصبح مكشوفاً: يتنازل شكلاً للحصول على الأوكسيجين الذي يسمح له بمواصلة حكمه وسلطته، ولدى حصوله على هذا الأوكسيجين «تعود حليمة لعاداتها القديمة».

ويجب التمييز دوماً بين الوسيلة والهدف، فالانتخابات النيابية هي الوسيلة لمنع الفريق الآخر من انتزاع الشرعية ومحاولة إنتاج السلطة من دونه، فيما الهدف هو الوصول إلى مؤتمر دولي من أجل لبنان، والذي وحده يشكّل مدخلاً للأزمة اللبنانية.