IMLebanon

أيّ لبنان بعد الانتخابات؟

كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:

بعيداً من عنتريات وعضلات الخطاب السياسي، وزحمة البرامج الانتخابية وما فيها من ديباجيات، وعناوين، وتفاصيل، وتعهدات، والتزامات، ووعود، دعونا ننزل الى أرض الواقع قليلاً ونشرّح المشهد القائم.

إذا ما تعمّقنا في الخطاب المتبادل على حلبة الاستحقاق الانتخابي تتجلّى حقيقة ساطعة، ليس في مقدور منطق الإنكار الذي بات صفة ملازمة للشريحة الأكبر من الطبقة السياسية، ان يحجبها، وهي أنّ هذا الخطاب مبني على أسس ومرتكزات رخوة، أو ركيكة أو خاوية أو مملة أو فارغة، أو بالية، او صدئة؛ أسطوانة مكرّرة أكل عليها الدّهر الإنتخابي وشرب على نشازها.

هو الكلام ذاته، لنعد سنوات الى الوراء، ونقف قليلاً على ابواب الاستحقاقات النيابية السابقة، وقارنّا البرامج الانتخابية وخصوصاّ برامج اولئك الذين يلعنون السلطة اليوم، وهم كانوا شركاء فيها سواء بعد الطائف، او بعد العام 2005، فستتبدّى برامج مستنسخة بالبنود ذاتها، وأمّا الجديد فيها فهو تجميلها بمفردات طارئة لتبدو وكأنّها تحاكي اللحظة الرّاهنة، وتقدّم أولياء تلك البرامج وكأنّهم «طرزانات» تتحدّى الأزمة، وفي أيديهم مفاتيح أبواب حلولها ومخارجها المقفلة.

المواطن بلا شك، بائس ويائس، وما يزيد من بؤسه ويأسه، انّ رهانه على «الحج خلاص» الذي يبحث عنه في غابة السياسة اللبنانية، قد خسره سلفاً:

أولاً، خسره، مع القانون الانتخابي الحالي بنسبيّته المشوّهة، وصوته التفضيلي، المانع والمحبط لأيّ فرصة تغيير، والذي أسقط الإصرار عليه، بالضربة القاضية، أي أمل بخلاص.

ثانياً، خسره، مع برامج انتخابية «مستعملة» لا «تردّ رسمالها»، ولا تعوّض ثمن الحبر الذي كُتبت فيه، وذلك لقصورها وعجزها وعدم امتلاكها قدرة العبور بالبلد الى برّ الأمان المفقود. ولقد اعتاد المواطن اللبناني على مدى الاستحقاقات الانتخابية السابقة، على انّ صلاحية تلك البرامج المسمّاة اليوم إنقاذية، تنتهي يوم الانتخاب، ومن ثم تُهمل وتُركن على الرفّ لأربع سنوات، لتعود وتُستخدم من جديد في الاستحقاق التالي. وحال استحقاق 15 ايار لن يكون بمختلف عمّا سبقه من استحقاقات.

ثالثاً، خسره، مع العقليّة الاستغلالية التي باتت تُمارس علناً وجهاراً من قِبل «مجموعات المتسلّقين على وجع الناس وجوعهم» من احزاب وغيرهم من الجماعات التي فرّخت منذ 17 تشرين الأول 2019، والتي نفخت نفسها في لحظة انتفاضة ركبت موجتها، وأصرّت على ان تنظر الى نفسها بمرايا مكبّرة، فاعتقدت انّ مساحتها عابرة للكيان اللبناني، فكبّرت حجرها بشعارات وطروحات تغييرية جذرية شاملة ضجّت بها آذان اللبنانيين على مدى سنوات، وكانت النتيجة اصطدامها بواقعها وبحجمها على حقيقته، وصَدْمَتها بأنّ تكبير الحجر سواء من جماعات او مرشحين وزن الريشة السياسية، او من مرشحين واحزاب يعتبرون انفسهم من وزن الفيل السياسي ليس فقط لا يصيب، بل لا يُقوى على حمله.

واما الصورة الفضائحية، فتجلّت عندما حانت لحظة الجدّ، بالتسليم بأمر واقع أقوى واكبر منهم، حيث قزّم هؤلاء شعاراتهم وطروحاتهم، الى لعبة التسلّق على ظهر هذا وذاك من ركّاب اللوائح، للظّفر بحاصل انتخابي يحجز لهم، ولو مقعداً واحداً، في مجلس نواب لن يكون من حيث تركيبته مختلفاً عن تركيبة المجلس النيابي الحالي، وهذا ما تؤكّده كل مراكز الدراسات والإحصاءات التي تجمع جميعها على انّ التغيير مجرد حلم، وحكاية من «حكايات ستّي».

بمعزل عن التشكيك القائم في إمكان إجراء الانتخابات في 15 آذار، وما يُحكى عن معوقات مفتعلة، وبمعزل عمّا اذا كان من بين هؤلاء، وعلى وجه الخصوص «مجموعات المتسلقين»، من يتمنّى تطيير الانتخابات لكي يتجنّب تجرّع شرب كأس نتائجها المحسومة المر، فلننظر إلى النصف الملآن من الكوب الانتخابي، ولنفترض أنّ الانتحابات حاصلة حتماً في موعدها.

الموضوعيّة تقتضي التأكيد أن ليس في الإمكان الركون سلفاً للحسم المسبق لهذه الانتخابات قبل صدور نتائجها النهائية، وبالتالي مقاربة الاستحقاق الانتخابي بالقدر الأعلى من الموضوعية والواقعية والعقلانية، بعيدا من المبالغات، وتقديرات الاستطلاعات والدراسات الانتخابية التي ترجّح بقاء الخريطة النيابية بأكثريتها الراهنة في المجلس النيابي الجديد، ستفضي تلقائياً الى مشهدين:

الأول، أن تحمل انتخابات 15 ايار تغييرات ومفاجآت غير محسوبة، تتولّد عنها نتائج تنسف الخريطة النيابية الحالية وتقلبها رأسا على عقب، وتنتزع الأكثرية من أيدي «حزب الله» وحلفائه، وتنتقل معها هذه الاكثرية من مكان الى مكان آخر. فهذه النتائج بلا أدنى شك، ستشكّل انتصاراً ما فوق الانتصار الباهر لخصوم «حزب الله»، ولكلّ الجماعات التي سعت الى هذا الانقلاب التغييري. وامام ذلك، من حق اطراف هذا الانتصار الثمين، ان يقيموا الاحتفالات والمهرجانات ويحيوا الأفراح والليالي الملاح كلّ يوم.

وتبعاً لهذا المشهد، فإنّ ثمة من يفترض انّه لن يكون أمام الاطراف المهزومة سوى التسليم أمام الاكثرية الجديدة إذا ما تحققت، بل لن تكون قادرة على تغييرها او رفض الامر الواقع الجديد الذي سيحظى بالتأكيد بحاضنة له؛ محلية ومن كل المجتمع الدولي الثاني، أن تتأكّد تقديرات الإستطلاعات والدراسات، وتأتي نتائج الإنتخابات بغير ما تشتهي سفن السّاعين الى إحداث الانقلاب التغييري. وهو كما هو معلوم، الامر الاكثر ترجيحاً، وبالتالي تبقى الاكثرية في مكانها الحالي.

وتبعاً لهذا المشهد ايضاً، فإنّ النتائج المحتملة، ستلقي في أيدي الساعين الى الانقلاب جميعهم، سؤالاً صريحاً وواضحاً: ماذا فعلتم منذ 17 تشرين الاول 2019؟ وماذا حققتم؟ وماذا ستقولون في 16 أيّار لمن تسلّقتم على أكتافهم وعلى ظهورهم وعلى آلامهم؟ وهل سيُقال للناس وعدنا وأخلفنا وعفا الله عمّا مضى؟ وهل ثمّة من سيجرؤ على قول الحقيقة؟ وهل سيسلّم هؤلاء بنتائج الانتخابات ام اننا سنشهد فصلاً جديداً من التبريرات، وإطلاقاً متجدداً لاسطوانة من نوع آخر عنوانها التشكيك بنتائج الانتخابات؟ وما هو مصير الخطاب التغييري آنئذٍ؟

لكن الوقائع الماثلة على الحلبة الإنتخابية باتت تغلّب فرضيّة على فرضيّة؛ في المشهد الأوّل، يسلّم أطراف الصراع الانتخابي بأنّ الإطاحة بالأكثريّة الحاليّة مستحيل، وهو ما بات بعض المتسلّقين على توق الناس الى تغيير يخرجهم من أزمتهم، يعترفون علناً بعدم القدرة على كسر الخريطة النيابية القائمة، واما المشهد الثاني فهو الممكن. وأيام قليلة باتت تفصل عن تحديد أي من المشهدين سيحكم الواقع اللبناني بدءًا من اليوم التالي للانتخابات، ايّ يوم الاثنين 16 أيار.

الامر الطبيعي بعد إجراء الانتخابات ان يسلّم كل طرف باللعبة الديموقراطية، ويلملم اشياءه، وينصرف الى إحصاء ارباحه التي حصدها لتثميرها، أو خسائره التي مُني بها، والدخول في مرحلة التعايش مع الواقع الجديد الذي ستفرزه هذه الانتخابات، وبالتالي التشارك في لملمة جراح البلد واهله.

لكنّنا في لبنان، فعلى ما تؤشّر الوقائع والنوايا ومواقف الخصومة، او بمعنى أدق مواقف العداوة بين المكوّنات السياسية، المأسور اصحابها في «جُوَرِها العميقة»، فأيّاً ما ستكون عليه نتائج الانتخابات، فستكون لها تداعياتها الإرباكية، وسيدخل معها البلد في ما يمكن تسميتها «خبيصة سياسيّة» تكمّل ما هو سائد في هذه المرحلة، وهذا معناه أنّ الانتخابات النيابيّة برغم ما يسبقها من خطابات ناريّة وتعبئة جماهيرية على نار الاتهامات والشعبويات، ليست سوى محطة انتقالية لمشكل اكبر بعدها. وعلى هذا المشكل قد تترتب تداعيات تهوي بالبلد أكثر، وتفتح الباب على أزمات تبدأ بأزمة تمثيل، ولا تنتهي بأزمة حكومة، وأزمة حكم ورئاسة، بل تتولّد عنها ازمة نظام، وهنا الأزمة الأخطر بالتأكيد، وحينها سيجد الجميع انفسهم وقد وقعوا في محظور أقوى منهم جميعاً، لا يستطيع احد تقدير وجهته، وأي لبنان سيؤدي إليه، وساعتئذ لن ينفع أيّاً منهم البكاء على الأطلال!