IMLebanon

طرابلس المظلومة طَعَنَتْها الجغرافيا ولم يُسْعِفْها التاريخ

جاء في “الراي” الكويتية:

تشبه طرابلس في آلامها الدائمة حكايات التاريخ الإغريقي ومآسيه المستمرة واحدة تلو الأخرى ومن دون توقف.

هي عاصمة الشمال، لكنها تكاد تكون عاصمة الفقر من دون منازع، وعاصمة الأغنياء من دون منازع. فيها أغنى أغنياء لبنان والعالم العربي الذين تَرِدُ أسماؤهم في لوائح أثرياء العالم، وفيها الشوارع الفقيرة والمدقعة، والآف العاطلين عن العمل، والعائلات التي تعيش تحت خط الفقر. لكنها تبقى طرابلس التي يحبها أهلها وعارفوها والذين تعلَّموا في مدارسها ونشأوا في بيئات مختلطة مسيحية – إسلامية، قبل أن تُصْبَغ المدينة بدماء ضحايا عشرات الحروب ومحاولات تغيير هويتها.

في منتصف الخمسينات، طاف نهر أبو علي الذي يمرّ في قلب المدينة التي نُكبت جراء الفيضان الذي اجتاح عشرات العائلات وأوقع ضحايا وخسائر مادية وهدم منازل. طوفان النهر بقي في ذاكرة أبناء المدينة وعائلاتها الفقيرة لأعوام. لكنه انضم لاحقاً إلى سلسلة نكبات متلاحقة عاشتْها عاصمة الشمال، ملأت أزقتها بصور شهداء يرحلون عنها واحداً تلو الآخر.

نافست طرابلس بيروت في أن تكون عاصمة اقتصادية وسياسية وثقافية. كل مَن عَرَفَها قبل الحرب وعاش فيها من أبناء عائلات أقضية الشمال من الكورة وزغرتا وبشري وعكار، يشهد لها تنوعها المسيحي – الإسلامي، وغنى ثقافتها وروابط المثقّفين والأدباء ومدارسها الغربية واللبنانية التي ناهز مستواها التعليمي مدارس العاصمة. وهي نافست بيروت والزعامة السنية فيها، إذ خرج منها رؤساء حكومات (عبد الحميد ورشيد وعمر كرامي وأمين الحافظ وحالياً الرئيس نجيب ميقاتي)، وخرج منها وزراء بالعشرات.

هي المدينة التجارية والصناعية والبحرية والسياحية، تطل على المتوسط، وتفخر بمينائها الذي أصبح محطة تجارية مرموقة، وجزرها الصغيرة التي كانت مقصد السياح، وقلعتها الأثرية ومنازلها العتيقة وأسواقها القديمة من خان الصابون إلى الخياطين والصاغة والحرف وسوق الخضر والحياكات المنزلية.

كل ذلك لم يمنع طرابلس أن تكون في كل مرة قلب الحدث السياسي والأمني والعسكري. فهي عرفت كما غيرها من مدن لبنان مع مطلع الحرب إنقساماً طائفياً وتهجيراً مذهبياً، وهي المدينة التي حاول النظام السوري إخضاعها، مرات عدة قبل أن يجعلها معقلاً له. فبعدما تحولت مقراً لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد خروجها من بيروت عام 1983 شهدت معركة مدمّرة بين منظمة التحرير وبين الفلسطينيين الموالين لسورية. انتهت الحرب بخروج رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات من طرابلس، لكن السوريين في المقابل أحكموا القبضة عليها. قتل خليل عكاوي، وسيطر السوريون على مفاصلها الأساسية.

هي المدينة التي احتفلت بخروج الجيش السوري من لبنان عام 2005، لكنها عادت لتخضع للحساسيات السياسية فاندلعت معارك طاحنة بين جبل محسن العلوي وباب التبانة السنية عامي 2011 و2012. وهي المدينة التي خرج منها النظام السوري من الباب ليحاول العودة إليها من نافذة الجماعات الإرهابية كمنظمة «فتح الإسلام»، التي حاولت السيطرة عليها أولاً انطلاقاً من معركة مخيم نهر البارد والترويج لإقامة جمهورية إسلامية في عاصمة الشمال. المعركة الطاحنة مع الجيش اللبناني كلفت مئات الشهداء، وانتهت بإخراج «فتح الإسلام» من المنطقة. أما عام 2013 فشهد تفجيريْ مسجدي «التقوى» و«السلام» اللذين سقط فيهما 54 شخصاً ونحو 800 جريح وهي الجريمة التي أصدر فيها المجلس العدلي اللبناني حُكْماً شَمَلَ مسؤوليْن أمنييْن في النظام السوري.

في عام 2005، وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري شاركت طرابلس في «ثورة الأرز»، وأظهرت بوضوح اتجاهها السياسي في وجه سورية وحلفائها، وبايعت الرئيس سعد الحريري مراراً في الانتخابات التي حصلت. لكنها ظلت تعاني من زحف الفقر والعوز في أحيائها الفقيرة التي تحولت ساحة خصبة للمشكلات التي كانت تتجدد في كل ظروف عصيبة وحساسة.

ومن النادر أن تشهد مدينة لبنانية في الأعوام العشرين الأخيرة، ما شهدته طرابلس من اشكالات وصدامات مع القوى الأمنية، بين التنظيمات المسلحة، من حرب شوارع، وعبء مشكلة الحرب السورية والإنقسامات حولها والنزوح السوري، من دون نسيان ثقل المخيمات الفلسطينية على أبوابها.

في كل المحطات الأمنية الحساسة، كانت الحكومات المتعاقبة تضع خططاً أمنية لطرابلس، وأخرى اقتصادية. لكن الخطط الأمنية لم تتمكن من جعل المدينة منطقة منزوعة السلاح أو منطقة خالية من المشكلات الأمنية. فالمشكلة فيها معيشية – اجتماعية في الدرجة الأولى، إذ لم تنجح خطة اقتصادية واحدة في أن تنزع عنها رداء الفقر. كل الخطط المتتالية في أعوام السلم بعد التسعينات وبعد 2005، ركزت على إنماء المدينة وإقامة شبكة طرق وبنى تحتية وتعزيز المرفأ وإطلاق ورش إقتصادية وإستثمارية في البيئة التي تضم نخباً إقتصادية ومالية كبيرة وقادرة على تأمين الأرضية الصالحة للمستثمرين.

لكن كل تلك الخطط بقيت على الورق. وما نُفذ من مشاريع ضئيلة لم ينجح في كسر حلقة الفقر المدقع وتأمين وظائف ومشاريع إنتاجية. لا بل تفاقمتْ حالات العوز والبطالة وإنتشار المخدرات والآفات الإجتماعية في شكل مضطرد، في غياب أي رؤية إجتماعية وسكانية للمدينة.

العاملون في حقول إجتماعية يقفون عاجزين عن تلبية الآف طلبات الإغاثة وتأمين الحد الأدنى من مقومات العيش لأبناء المدينة الفقراء. وكل ذلك ساهم في الدفع نحو تجنيد شبان للقتال خارج لبنان أو للإنضمام إلى حركات أصولية. ورغم البروباغندا الإعلامية التي تعمّدتْ أحياناً كثيرة تشويه صورتها ظلت طرابلس ترفض أن تُطلق عليها صفة التشدد والتطرف، وحرصت على أن تُظْهِر دائماً رغبتها في العيش بسلام.

كان عام 2019، مناسبة كي يعبّر الطرابلسيون عن حقيقتهم بعد حرب التهشيم لهويتهم وتخلي السلطة اللبنانية عنهم. وكانت تظاهرات 17 أكتوبر والثورة الشبابية التي سطعت في ساحات طرابلس بقدر ما كانت ناشطة في العاصمة بيروت.

فمشهد طرابلس كان مغايراً للصورة التي أعطيت لها على مدى أعوام. المدينة التي أُلصقت بها تهمة «التشدد» رقصت وغنّت ورفعت الصوت دفاعاً عن فقراء لبنان وحقهم في الخبز والعمل والحياة الكريمة. وتحوّلت ساحات عاصمة الشمال إكتشافاً للبنانيين الذين رأوا على شاشات التلفزيون صوراً لمدينة مُسالِمة وفَرِحة، بعدما إنطبعت في ذاكرتهم على أنها ساحة للتطرف ولم يكن عابراً وصفها بـ«عروس الثورة» أو «أيقونة» الإنتفاضة.

ومع ذلك، وبعدما تَراجَعَ سعرُ الليرة اللبنانية إلى حد غير مسبوق ظلت حكايات الفقر والتدهور الإقتصادي أقوى من كل الأحلام اللبنانية والطرابلسية.

في مرحلة الحرب السورية وبدايات النزوح والهروب غير الشرعي نشطت تجارة تهريب البشر عبر المرافىء غير الشرعية. وتحرّكتْ العصابات براً وبحراً، وبدأت رحلة الطرابلسيين مع محاولات الهجرة غير الشرعية عبر مراكب صغيرة تحاول نقل عشرات الشبان والعائلات إلى بقاع أكثر أمناً وإزدهاراً.

ورغم الخطر المحدق بـ «الفرار» من واقع جهنمي وصعوبة إجتياز السلطات اللبنانية والسلطات التركية والقبرصية كون تركيا وقبرص هما الجهتان الأكثر إستقطاباً لقربهما من لبنان، فان المحاولات ظلت كثيفة. وحادثة غرق المركب ليل السبت – الأحد «الأسود» ليست الأولى. فمنذ ان بدأت موجات الهجرة، والحوادث تتكرر. هناك مراكب وزوارق أوقفها الجيش اللبناني في عرض البحر وأعادها إلى طرابلس، ومنها ما غرق تحت وطأة الحمولة الزائدة وظروف البحر، فأنقذهم الجيش وأعادهم سالمين أو إنتشل جثثهم. وهناك مَن وصل إلى قبرص التركية أو اليونانية أو تركيا فقبع في مخيمات النازحين قبل ان تعيده السلطات هناك إلى لبنان.

ورغم ان الهجرة غير الشرعية بدأت بسبب محاولات النازحين السوريين الخروج من لبنان، إلا أنها تحوّلت في الأعوام الأخيرة لبنانية، نتيجة العوامل الإقتصادية المتدهورة.

على مدى الأعوام العجاف الأخيرة، وروايات الناجين من البحر وصور المفقودين تشغل مساحات واسعة من التغطية التي تواكبها السلطات اللبنانية الرسمية بوعودٍ بحلولٍ ومحاولات تحسين ظروف أبناء المدنية. لكن بين تَفاقُم الإنهيار وبين نشاط عصابات التهريب، أصبح واقع الهجرة غير الشرعية ضاغطاً.

ما حصل في اليومين الأخيريْن وقبل الإنتخابات النيابية، يفترض انه وجّه رسالة قاسية إلى المرشحين الذين يتنافسون لتمثيل مدينة أصبح عدد من أبنائها إما هائمين أو غرقى في عرض البحر. وما جرى لم يكن الأول ولن يكون حتماً الأخير. لكن طرابلس تدفع الثمن دائماً من حياة أبنائها وهناك مَن لا ينظر إليها بعين الرحمة.