IMLebanon

حقبة جديدة للاقتصاد من عدم اليقين

جاء في “الراي” الكويتية:

دخل الاقتصاد اللبناني حقبةً جديدةً من حال عدم اليقين، يغلب فيها الغموض غير البنّاء على مجمل ترقبات المحللين المحليين والدوليين في شأن الفرص المتاحة لكبح مسار الانهيار الذي استهلك نحو 20 مليار دولار من احتياطات العملات الصعبة لدى البنك المركزي، لقاء «شراء الوقت» على مدار عامين متتالين بهدف تمكين السلطة التنفيذية من عقد برنامج تمويل مع صندوق النقد الدولي تمخضت عنه اتفاقية أولية مشروطة بإصلاحات هيكلية واسعة لقاء ضخ تمويل بقيمة 3 مليارات دولار على مدى 4 سنوات.

وبلغ التوغّل اللبناني في «التيه العظيم» أوجه، مع تحوُّل الحكومة القائمة إلى مهمات تصريف الأعمال بنطاقها الضيق، تزامناً مع انطلاق ولاية مجلس النواب الجديد، ووسط إشارات غير مُطَمْئنة لإمكان إرساء تفاهماتٍ جديدة ترتكز إلى انقلاب الأكثرية النيابية من قبضة «حزب الله» وحلفائه إلى مجموعاتٍ غير منسجمة في التوجهات والأهداف، ما يشي بمرحلةِ شللٍ طويلة في أداء المؤسسات الدستورية كافة، وتمدُّداً إلى استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية مع ختام السنة الأخيرة للولاية الحالية في نهاية شهر تشرين الأول المقبل.

وتَبَيَّنَ من خلال رصْدٍ أجرتْه «الراي» مع مسؤولين كبار خبراء في الاقتصاد والقطاع المالي، ارتفاع منسوب التوجس من تعمُّد الحكومة في جلستها الأخيرة التنصل من وعود بإدخال تعديلات على خطة التعافي ارتكازاً إلى الملاحظات والتنبيهات التي وردت من النقابات المهنية في القطاعات كافة، ما جعل قرار تصديقها في آخر جلسة متاحة لمجلس الوزراء سبباً قوياً لتعميق الانقسامات الداخلية في المرحلة المقبلة، ولا سيما لجهة ما تتضمنه من بند رئيسي بإعفاء الدولة ومصرفها المركزي من كامل مسؤولياتها حيال ديونها التي تتعدى رقمياً 100 مليار دولار، مقابل القاء أحمال فجوة الخسائر كاملة وبمقدار 73 مليار دولار على الجهاز المصرفي وتكبيد مودعيه ما لا يقل عن 60 مليار دولار.

ويُتوقع في ضوء هذا السلوك تَعاظُم الاعتراضات الاقتصادية والمالية والنقابية، وبلوغاً إلى الكتل الجديدة التي تحمل نبض الشارع والثورة إلى مجلس النواب، بهدف إسقاط معادلة «ما كُتب قد كُتب»، توازياً مع تَرقُّبِ توسع رقعة الخلافات إلى حد الصِدام بين المصارف ومودعيها من جهة، وبين شريكيها في المسؤولية الأساسية، أي الدولة ومصرف لبنان، عن الفجوة المالية المقدرة بنحو 72 مليار دولار، منها نحو 60 مليار دولار جرى تقديرها كخسائر في ميزانية البنك المركزي، وتم الإقتراح باقتطاعها بالكامل من توظيفات المصارف لديه والبالغة نحو 85 مليار دولار.

وفي حقيقة الأمر، يستغرب اقتصاديون ومصرفيون تَسَرُّعَ الحكومة وميلها لتستنسخ على حين غرة تجربة حكومة الرئيس حسّان دياب في استخلاص خطة التعافي الاقتصادي وفق مبدأ رئيسي يقوم على منح الدولة ومالها «السائب» صك براءة، كما منحه للبنك المركزي المنغمس بهندسات مالية مريبة، وباستجاباته غير المشروطة لضخ التمويل لسد العجوزات المتوالية في موازنات غير مستقيمة في جانبي الإيرادات والإنفاق، فضلاً عن سخاء الدولة في مد مؤسسة الكهرباء بسلف غير قابلة للاسترجاع بقيم يبلغ متوسطها نحو 1.5 مليار دولار سنوياً وبمكرمات المحاصصة والتوظيفات وسلاسل الرتب والرواتب في القطاع العام.

والمثير أكثر، أن بند أولوية إعادة تكوين ميزانية مصرف لبنان المركزي لتصل إلى المستوى السليم، بعدما بيّنت التقديرات ضخامة الرأسمال السلبي المتراكم والذي يصل إلى حدود 60 مليار دولار، فضلاً عن خسائر إضافية مرتقبة جراء إعادة هيكلة الدين الحكومي وتوحيد أسعار الصرف، يقوم على شطب ما يوازي المبلغ عيْنه، أي 60 مليار دولار، من التزامات البنك المركزي إزاء البنوك التجارية، ومن ثم المساهمة بإعادة الرسملة جزئياً عبر إصدار سندات سيادية بقيمة 2.5 ملياري دولار قابلة للزيادة لاحقاً، على أن يجري تذويب الرصيد الباقي للخسائر خلال فترة 5 سنوات.

ومع تحميل هذا العبء الضخم للجهاز المصرفي والذي يرجح أن يلقى معارضة شديدة من قبله، تُقِرّ الخطة بوجوب إعادة رسملة البنوك التجارية القابلة للاستمرار وحل المتعثرة منها، بهدف إيجاد نظام مصرفي يتوافق مع اقتصاد قوي ويدعم تعافيه. وتتطرق إلى خسائر مضافة إلى التزامات البنك المركزي، وستنتج عن إعادة هيكلة الديون السيادية (اليوروبوندز) وتعثر محافظ القروض ووقع توحيد سعر الصرف على ميزانيات البنوك. وهو ما سيتطلب، وفق الخطة، إسهامات كبيرة من المساهمين ومساهمات ضخمة من كبار المودعين.

ولعل البند الأبرز الذي يترقّبه المودعون من مقيمين وغير مقيمين يكمن في تحديد خط الحماية التامة، وهو ما تقترح الخطة أن يصل إلى 100 ألف دولار بالحد الأعلى مع اشتراط أن لا تشمل هذه الحماية أي زيادة طرأت على حساب المودع بعد تاريخ 31 آذار من العام الجاري. بينما ستكون الشرائح التي تتعدى خط الحماية خاضعة لسقوف السيولة بحيث يمكن السداد بالدولار والليرة أو كليهما وفق سعر السوق. علماً أن خطة الحكومة السابقة كانت اقترحت خط الحماية عند مستوى 500 ألف دولار للوديعة بالحد الأدنى.

وحتى يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود في هذه الخلطة، التي تصفها جهات مالية واقتصادية بـ «العجيبة»، بدا صريحاً أن لا ضمانة أدبية أو مادية تضمن إعادة المئة ألف دولار إلى أصحابها. فالدولة العاجزة عن إقرار قانون الموازنة، مدّت يدها، وبعد التقلص الحاد لاحتياطات البنك المركزي التي تدنت إلى نحو 10 مليارات دولار، أي دون التوظيفات الإلزامية الخاصة بالودائع البالغة أكثر من 13 مليار دولار، إلى رصيد حقوق السحب الخاصة البالغة نحو 1140 مليون دولار، والتي تلقاها لبنان كما سواه من الدول كسدادٍ لاشتراكاته المتراكمة لدى صندوق النقد الدولي بهدف المعاونة على جبه أعباء وباء «كورونا» وتصحيح موازين المدفوعات.

بذلك، لم يكن الموقف الصِدامي الذي نحت إليه المصارف مفاجئاً، بل إن تلويحها بمقاضاة الدولة والمرجّح أمام مرجعيات قضائية محلية وأجنبية قد يكون المسار الأسلم لجبه إمعان الدولة في مقاربة انحرافاتها المالية بانحرافات أكثر إيذاء وجسامة قد تفضي إلى تغيير منهجي في هوية الاقتصاد الوطني وطبيعته ومزاياه. فأي ركيزة ستبقى بعد تحجيم قسري للجهاز المصرفي توطئة لإشهار إفلاسه بعد تذويب رساميله وشطب توظيفاته والاقتصاص من المودعين المقيمين منهم وغير المقيمين، وتالياً أي إقتصاد يمكن تَصَوُّره بلا مصارف وبلا إدخارات وطنية ووافدة.

وبدورها نوّهت جمعية تجار بيروت، بأن مسؤولية الانهيار المالي، وباعتراف الجميع، تقع على عاتق الدولة والمصرف المركزي والمصارف، على التوالي. لكن الصدمة الكبيرة أتت عندما قلبت الحكومة هذه التراتبية المسلَّم بها نهائياً، رأساً على عقب، فبرّأت ساحة الدولة والمصرف المركزي من مسؤولياتهما المالية الجسيمة على نحو شبه كلّي، بينما حمّلت المودعين والمصارف فاتورة قدرها 60 مليار دولار، محوّلة بذلك، وبشطبة قلم، مطلوبات الدولة وديْنها المتراكم إلى خسائر فادحة يتكبّدها المجتمع والاقتصاد.