IMLebanon

ريحُ الجنوب هبَّت والرسائل ملغومة

كتب طوني عيسى في “الجمهورية”: 

فعَلَها الإسرائيليون كما كان متوقعاً. أوصلوا منصَّة الحفر إلى حقل «كاريش»، مدعومةً بالنسخة البحرية من القبَّة الحديد، ومغطاةً بمنطقة حظر جوي وبحري. وأعلنوا أنّهم سيبدأون الاستخراج في الأشهر الثلاثة الأخيرة من هذا العام. إذاً، انتهى زمن «إضاعة الوقت»، فماذا سيفعل اللبنانيون؟

هذه المرّة، لا يناور الإسرائيليون في مسألة التنقيب في «كاريش»، وهم على وشك التنفيذ فعلاً، والدليل إلى ذلك إشارتان:

1 – إجرائياً، هم تجرّأوا على استقدام الحفّارة العائمة من سنغافورة لمصلحة شركة «إنرجين»، وعبرت قناة السويس، حيث عبَّر المصريون عن ارتياحهم لإتمام العملية بنجاح. وعلى الأرجح، لن يتكبَّد الإسرائيليون أعباء نقل الحفّارة إلى المتوسط، من أجل المناورة فقط.

2 – سياسياً واقتصادياً، لحظةُ الحرب في أوكرانيا بما يرافقها من أزمة غاز في أوروبا، تمنح إسرائيل حافزاً استثنائياً لخوض مغامرة الاستخراج. فالسوق الأوروبية في حاجة ماسّة إلى غاز الشرق الأوسط، وبأسعار مناسبة. وهو ما يُترجَمُ ضمن منظومة التعاون الإقليمي- الأوروبي التي تضمُّ إسرائيل ومصر والأردن وقبرص واليونان وفرنسا، وتحظى بتغطية أميركية.

إذاً، ستبدأ إسرائيل باستخراج الغاز من «كاريش». وإذ تفيد التقارير أنّ المكان الذي تمركزت فيه الحفَّارة يقع في القسم الجنوبي من الحقل، أي خارج الخط 29، إلّا أنّ ذلك لا يغيّر شيئاً في الواقع. فآبار الغاز هي نفسها تحت الماء، وسواء جرى السحب من خارج هذا الخط أو من داخله. ويمكن لإسرائيل أن تسحب الجزء الأكبر من مخزونات «كاريش» من دون أن تتكبّد عناء اجتياز هذا الخطّ الوهمي.

هذا يعني أنّ لبنان مضطر إلى الحسم بين خيارين:

1 – أن يتصدّى «حزب الله» لعملية الحفر عسكرياً، ولو أنّها محميَّة بقوات البحر والجو الإسرائيلية.

2 – أن تؤدي عملية الحفر الإسرائيلية إلى تثبيت قواعد تفاوض جديدة بمرونة أكبر في المفاوضات، ما يتيح التوصّل إلى اتفاق «واقعي». وهذا الأمر هو الذي يميل إليه لبنان الرسمي، بدعوته الموجَّهة إلى واشنطن لإرسال موفدها عاموس هوكشتاين في جولة جديدة.

المتابعون يقولون إنّ فرص الانفجار والانفراج متساوية. ولكن، من الممكن أن يكون التماسّ العسكري مبرّراً للدخول في مفاوضات جدّية.

في رأي بعض المراقبين، أنّ «حزب الله»- وإيران مِن ورائه- لن ينفّذ التهديد بضرب الحفّارة العائمة، لأنّ لبنان لا يمكن أن يتحمّل ردّاً إسرائيلياً قد يكون في حجم ضربة تموز 2006 التي دمَّرت البنى التحتية وأبقتها مشلولة لسنوات. لكنه ربما يوجِّه رسائله الساخنة من خلال «مسيَّرات» تخرق القبة الحديد الإسرائيلية، وتكون لها مفاعيل عسكرية محدودة.

ووفق بعض المتابعين، هذا «التحرّش» العسكري بالإسرائيليين يمكن أن يفتح باب المفاوضات الجدّية بين لبنان وإسرائيل. وقد يتمكن فيها الوسيط الأميركي من الضغط لإمرار طرحه القاضي بترسيم خطّ حدودي متعرِّج يتيح لإسرائيل الاستفادة من «كاريش» بكامله، مقابل استفادة لبنان من حقل «قانا» بكامله.

وفي ظلّ عدم التفاهم في لبنان على خطّ واضح لـ«الحقوق» اللبنانية، بين الخط 23 «المنبوذ» والخط 29 «الجريء جداً»، سيكون هذا الطرح نقطة وسطى، ويحقق مكاسب هائلة للبنان داخل البلوك 72، الذي يُقدَّر أنّه بين الأغنى بمخزونات الغاز في إسرائيل.

وثمة مَن يعتقد أنّ التباينات اللبنانية الظاهرة حول خطّ الحدود 29، لجهة اعتباره خطّاً للحقوق لا يمكن التنازل عنه أو اعتباره خطّاً للتفاوض فقط، قد تكون ملائمة لإتاحة شيء من المرونة خلال المفاوضات، ولكنها أيضاً تعبِّر عن خلفيات ومصالح سياسية متضاربة.

فحزب الله يرفع السقف ليقول للإسرائيليين إنّه هو مَن يجب التفاهم معه في أي اتفاق، أي إنّ إيران تمسك بالقرار اللبناني وبورقة حدود إسرائيل الشمالية وبورقة الغاز العابر من الشرق الأوسط إلى إوروبا.

ومن اللافت أنّ «الحزب» يدعو الدولة اللبنانية إلى أن تتجرّأ وتبدأ الاستثمار في البقعة التي تعتبرها حقّاً للبنان، وأَن لا تنتظر الاتفاق مع إسرائيل. فعلى رغم أنّ هذا الموقف يشكِّل مغامرة، فإنّه يُعتَبر متقدِّماً، إذ يدعو إلى انتقال لبنان من الإرباك إلى التحرّك عملانياً، على غرار إسرائيل.

وأما أركان السلطة فيناورون للحفاظ على الحدِّ الأدنى من العلاقات مع واشنطن، سواء لمصالح شخصية أو لضرورات تتعلق بحاجة لبنان إلى دعم واشنطن وعدم إغضابها. ومن التقاطعات السياسية أنّ مستشار الرئيس ميشال عون لملف المفاوضات، والمعروف بعلاقة جيدة مع الأميركيين، الياس بوصعب، فاز حديثاً بموقع نائب رئيس المجلس النيابي، ضمن تسوية يتردَّد أنّها لقيت تشجيعاً خارجياً، وسيكون له دور في هذا الملف الحيوي.

في المقابل، ما هي أدوات الضغط التي يمارسها الأميركيون والإسرائيليون؟

الأرجح أنّ الانهيار المالي والنقدي والاقتصادي هو العنصر الذي سيشكّل الضغط الأكبر على لبنان في المرحلة المقبلة. فلا مجال لاتفاق مع صندوق النقد الدولي ولا لمساعدات ولا تغطية سياسية عربية أو غربية للبنان إذا قرّر السير في مواجهة الحلف الإسرائيلي – العربي – الغربي. والدليل هو الانتظار بلا أمل لإمدادات الكهرباء من الأردن والغاز من مصر.

فلبنان المنهار لن يتحمّل مواجهة لا هوادة فيها مع الأميركيين والإسرائيليين والعرب، ولن يستطيع الوقوف حجر عثرة أمام إمدادات الغاز الشرق أوسطية نحو أوروبا، وفرنسا خصوصاً. فهل تقترب التسوية في لبنان من خلال بوابة الناقورة؟