IMLebanon

الدولة ستبقى فاشلة إلّا إذا..

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

يُفترض ان تكون نهاية ولاية الرئيس ميشال عون هي السقف الزمني الذي من بعده تُطرح إشكالية النظام السياسي على بساط البحث الجدّي والعملي، طالما انّ «حزب الله» ليس في وارد تسليم سلاحه.

هناك من يعتبر انّ اليأس من النظام السياسي القائم ممنوع، وانّ ما لم يتحقّق إبان الحرب والمتاريس العملية والنفسية لا يجب ان يتحقّق اليوم، وانّ الصراع التاريخي بين المسيحيين والسنّة حول نهائية الكيان اللبناني ودوره انتهى بتحوّل أهل السنّة إلى مدافعين عن سيادة لبنان، وانّ التحوّل التاريخي للسنّة باتجاه اللبننة لا بدّ من ان ينسحب في ظرف معيّن على الكتلة الشيعية الصلبة، وانّ المسألة مسألة وقت لا أكثر ولا أقل.

وتعتبر هذه النظرة، انّ لبننة أهل السنّة ما كانت لتتحقّق بإرادتهم الذاتية لولا انكفاء المشاريع السنّية الإقليمية التي تدعو إلى الوحدة، ومع غيابها تواضعت أحلامهم إلى داخل حدود الجمهورية التي كانوا اعتبروها في زمن غابر ترسيماً استعمارياً للأمة او الوطن العربي. ولبننة الكتلة الشيعية الصلبة لن تتحقّق بإرادتهم الذاتية، والمعبر لتحقيقها هي طهران لا حارة حريك. ففي حال بدلّت طهران في دورها يتبدّل تلقائياً دور هذه الكتلة باتجاه اللبننة. وما قد يدعو إلى التفاؤل على هذا المستوى انّ الدور الإيراني الإقليمي وصل إلى ذروته وقمة صعوده وبدأ بالتراجع التدريجي، وانّ نموذج الثورة الدينية الذي قدّمه لم يشكّل نموذجاً يحتذى في أي دولة نجح باختراقها، ولم ينجح أيضاً في تقديم أي فكرة لها علاقة بالازدهار ورفاهية الإنسان والتطور والحداثة، إنما كل مقاربته قائمة على مبدأ العنف والقوة والحرب والقتال.

ومع انحسار الدور الإيراني، وفشله في إيران وفي كل الدول التي يتمدّد داخلها، وصعود محور الاستقرار المناوئ له، لم يبق أمام طهران سوى شراء الوقت قبل ان تضطر مجدّداً إلى شرب سمّ التسوية، وعامل الوقت لم يعد يعمل لمصلحتها مع تقدُّم دور أخصامها وانحسار دورها، ما يعني انّه ليس من مصلحتها ترحيل التسوية، إنما تقريب أوانها من أجل تحصيل المكاسب السياسية من خلال استبدال دورها الأمني بدور سياسي.

ولكن، هل ما تقدّم هو المسار الحتمي للدور الإيراني؟ يصعب الكلام بالتأكيد عن حتميات في السياسة وتطوراتها، وقد يكون الأدق الكلام عن المسار الطبيعي للأمور من دون تحديد أفقه الزمني. إنما بعيداً من كل ما يتصل بالجزم والحسم، فإنّ الأسئلة التي لا بدّ منها تتمحور حول الآتي: هل انكفاء الدور الإيراني إلى داخل الحدود الإيرانية يؤدي إلى انكفاء دور «حزب الله» إلى داخل الحدود اللبنانية؟ وهل عودة إيران إلى داخل حدود الجمهورية الإسلامية الإيرانية تعيد الكتلة الشيعية الصلبة إلى داخل أسوار الجمهورية اللبنانية؟ وهل انتهاء الثورة الإيرانية يُنهي مفاعيل الانقلاب على الدستور اللبناني ويعيد «حزب الله» إلى اتفاق الطائف، أم انّه سيطالب عندذاك بتعديله من أجل تسييل سلاحه ودوره بمزيد من المكاسب والصلاحيات الدستورية؟ وماذا يبقى من النظام الإيراني في حال تخلّى عن علّة وجوده المتصلة بالثورة الإسلامية، وماذا يبقى من الحزب في حال تخلّى عن سلاحه ومشروعه في إقامة الدولة الإسلامية؟

وعلى رغم البراغماتية الإيرانية التي تتجرّع السم غير القاتل تفادياً لموتها، إلّا انّها لن تتراجع بسهولة عن علّة وجودها المتعلقة بالثورة وتعميمها. كما انّ «حزب الله» لن يتنازل بالسهولة التي يتصورها البعض عن سلاحه ودوره وعقيدته بتغيير هوية لبنان لتتناسب مع هويته الدينية، وفي أسوأ الاحتمالات سيقايض سلاحه بصلاحيات دستورية تجعله ممسكاً بمفاصل السلطة، ومن الصعوبة بمكان ان يلتزم بالدستور واتفاق الطائف من دون إدخال التعديلات التي يطمح إليها.

وبمعزل عن المسار الذي يمكن ان تسلكه الأمور، أكان من خلال تغيير طهران لدورها وانعكاس هذا التغيير على دور «حزب الله»، أم استمرار الصراع القائم في فصول جديدة ولعقود مديدة، إلّا انّ الأكيد أن لا شيء محسوماً على أي مستوى، وما هو محسوم فقط الموت البطيء للشعب اللبناني وفشل الدولة والنظام اللبناني، فيما لم يعد مجدياً الرهان على لبنان بصيغته الحالية – القديمة، أي الرهان على عودة «حزب الله» إلى داخل الحدود اللبنانية والتزامه بمندرجات الدستور اللبناني. وما هو مجدٍ وقف الرهان على عامل الوقت، والدفع باتجاه حوار لبناني- لبناني برعاية دولية، عنوانه الخروج من مركزية الدولة إلى لا مركزيتها الموسعة، وفي حال لم يتحقّق ذلك يعني استمرار الدوران في حلقة الفشل نفسها.

فإذا كان نزع سلاح «حزب الله» متعذراً، وبما انّ لبنان بلد تعددي، فلماذا إفساح المجال أمام الحزب في السيطرة على الدولة بسبب مركزيتها، وفرض شروطه من خلال إمساكه بالدولة على كل المجموعات اللبنانية، فيما حان الوقت ان تتفِّق هذه المجموعات على تفريغ الدولة المركزية من صلاحياتها تعزيزاً للدولة اللامركزية، وهذه الطريقة الوحيدة للحدّ من تأثير دور الحزب على الدولة والبلد؟

وهذا المشروع غير قابل للتحقُّق من دون مؤتمر دولي وتبنّي المجموعات اللبنانية للتوجّه اللامركزي، لأنّ «حزب الله» لن يتخلّى عن إمساكه بالدولة وسيطرته على كل الجمهورية، إنما يجب خلق الظروف الداخلية والخارجية المؤاتية لتحقيق هذا المشروع، ومن دون تحقيقه ستبقى الدولة في لبنان دولة فاشلة، لأنّ محاولات المجموعات وضع اليد عليها لم ولن تتوقّف، وهناك من يتجاهل عمداً الاعتراضات التي رافقت ولادة لبنان الكبير، ومن ثمّ الاحتجاجات على استقلال العام 1943، وأحداث العام 1958 التي نقلت للمرة الأولى الانقسام السياسي إلى الاشتباك العسكري، وصولاً إلى الحرب الأهلية التي ما زالت مستمرة بمعزل عن الشكل الذي تتخذه في كل حقبة من الحقبات.

وهناك من يتجاهل أيضاً انّ عمر الأزمة اللبنانية تجاوز الـ50 عاماً، أي أكثر من نصف قرن. فعن أي تجربة ناجحة يتحدّث هذا البعض وهي مأزومة منذ أكثر من خمسة عقود؟ وبالتالي، بانتظار ان تستقيم الأمور وتتحوّل أولوية جميع اللبنانيين إلى لبنان وازدهاره واستقراره وتطوره، وبانتظار ان تنتفي المشاريع التي هي أكبر من البلد ودمّرت البلد، من الثورة الفلسطينية إلى الثورة الخمينية، لا بدّ من ترييح البلد ومجموعاته من سطوة فريق مسلّح على الدولة وشلّها وتعطيل مرافقها، وطالما انّ نزع سلاحه غير ممكن فالحلّ الوحيد هو بحصر تأثير هذا السلاح داخل البيئة الشيعية، ومن لا يريد من الشيعة العيش تحت رحمة هذا السلاح، مناطق لبنان الواسعة مفتوحة أمامه.

ويستحيل ان يقبل «حزب الله» بحصر نفوذه داخل البيئة الشيعية، ليس فقط لأنّه يعتبر انّ كل لبنان يجب ان يكون تحت سيطرته، بل لأنّه يخشى من هجرة شيعية من داخل مناطق نفوذه بسبب حكمه وسيطرته، وهو يريد السيطرة على كل الدولة وليس على أجزاء منها. ولكن، مع فشل رهان البعض على لبننته، ومع فشل كل شيء في لبنان في ظلّ الانهيار المتمادي، لا بدّ من تغيير أسلوب المواجهة وعنوان المواجهة، أي عنوان العبور إلى الدولة الذي لن يتحقّق سوى بعد تحولات إقليمية ليست في متناول اليدّ. والخشية من ان تتحوّل الجمهورية اللبنانية في هذا الوقت الانتظاري إلى الجمهورية الإسلامية. وبالتالي، حان الوقت لاستبدال عنوان العبور إلى الدولة المركزية بالعبور إلى الدولة اللامركزية.

فالهدف الذي وضع في زمن 14 آذار لم يعد صالحاً اليوم، وعدا عن كونه لم يتحقّق، فإنّه يستحيل الحفاظ على هوية لبنان التعددية في حال استمر التآكل التدريجي للدولة وتواصل الانهيار. وبالتالي، من أجل الحدّ من الخسائر المجتمعية والبنيوية، يجب الحدّ من سطوة «حزب الله» على الدولة المركزية التي تنعكس على كل لبنان والشعب اللبناني. ولا خيار آخر في هذه المرحلة يفرمل الهجرة ويهدِّد هوية لبنان التاريخية، غير التخفيف من حمولة الدولة وزيادة حمولة الأقضية بمجالس تمثيلية قادرة على إدارة شؤون الناس، بعدما فشلت الدولة في هذه الإدارة بسبب «حزب الله» اليوم، وفئة أخرى قبله، وفئة ثالثة، ربما، في المستقبل.

وبانتظار التسوية في المنطقة، وبانتظار التسوية اللبنانية على معنى لبنان ودوره وفلسفته، يجب الاستفادة من الأزمة المفتوحة على فصول مختلفة، من أجل فرض أمر واقع جديد يؤدي إلى ترييح الناس ويحافظ على حضور الجماعات التي هناك من يتعمّد إضعافها وشرذمتها بغية التخلُّص من تركيبة الجمهورية اللبنانية وتوازناتها. وتذكيراً بأنّ هذا الواقع الجماعاتي بالذات حال دون التتريك ومن بعده التعريب بمعنى الأسلمة ومن ثم السورنة، ويجب ان يحول دون تحوله إلى محافظة إيرانية مستقبلاً، ما يعني انّ الحفاظ على هذا الواقع هو ضرورة وجودية من أجل الحفاظ على تعددية المجتمع اللبناني، والدفع في الوقت نفسه باتجاه تفاهم هذه الجماعات لا صدامها، والتفاهم لا يمكن ان يتحقق سوى من خلال الاتفاق على مساحة مشتركة، تبدأ بأولوية الإنسان ورفاهيته ولا تنتهي بالدولة.