IMLebanon

في “العدلية”… الأوراق والماء و”الفانوس” على حساب القاضي

جاء في “المركزية”:

دعا رئيس الجمهورية العماد ميشال عون القضاة في لبنان الى ان ينتفضوا لكرامتهم وسلطتهم ولا يهابوا ظلم اصحاب النفوذ “فهم ادرى بوهنهم أمامكم عندما تؤدون رسالة عدالة الأرض بانتظار عدالة السماء”.

وما إن أطلق الرئيس عون هذه الصرخة حتى لبّى القضاة الدعوة وانتفضوا على واقعهم فتوقف أكثر من 350 قاضياً عن العمل احتجاجاً على أوضاعهم المعيشية. لكن ما هي تداعيات هذه الخطوة غير المسبوقة في الجسم القضائي؟

الرئيس السابق لمجلس شورى الدولة القاضي شكري صادر يقول لـ”المركزية”: “اذا أراد شخص ما أن يبيع منزله الذي يساوي 500 الف دولار، فهو مستعد في أيام الضيق أن يتنازل ويبيعه بـ 400 او 300 او حتى بـ200 ألف، ولكن عندما يُعرض عليه 50 الف دولار فإنه بالطبع سيرفض مفضلا إشعال النيران فيه والتفرج عليه يحترق عوضاً عن ذلك، لأن هذا يعني “استهبال” المالك. ما يحصل مع القضاة مشابه تماما لهذا الوضع، فقد صبروا ودفعوا من جيوبهم واستدانوا من أهاليهم، لأن لم يعد باستطاعتهم الاستمرار وتأمين أدنى متطلبات العيش الكريم. فمن كان منهم، عام 2019، يتقاضى 4 ملايين و500 الف ليرة، كانت تساوي 3000 دولار أميركي، أصبحت اليوم توازي 105 دولارات. كما ان لدى القضاة مستحقات ومدفوعات من مأكل ومشرب وأقساط مدرسية وقرض منزلي وايجار وغيره من المصاريف.. فكيف سيتمكن من تأمين كل ذلك، والمئة دولار التي يتقاضاها بالكاد تكفيه للانتقال الى مكان عمله”.

ويضيف صادر: “جميعنا نعرف حجم الرشاوى في الدولة على صعيد الوظيفة العامة، إلا أن القاضي ليس في الوارد ان يقبض خارج مرتبه وإلا لا يعتبر قاضيا، فكيف سيعيش. حاول القضاة ايصال صوتهم بالطرق الحضارية مطالبين بإنصافهم، لكن عبثاً. هناك زمرة حاكمة لا تفهم إلا بالأساليب التي تجيدها هي. لماذا المطلوب من القاضي ان يضحي بكل شيء في الوقت الذي تتم فيه تصحيح أجور زملاء له في القطاع العام، القاضي لم يعد باستطاعته التحمل، جل ما يريد هو ان يعيش بكرامته. لذلك حصلت هذه الانتفاضة من قلب مجروح. وكي يصل القاضي الى هنا فهذا يعني أنه استهلك كل الوسائل، وتبين أنها لا تنفع مع هكذا طبقة حاكمة”.

ويتابع: “استغرب كيف ان الطبقة الحاكمة لا تعي هذا الوجع، ويبدو أنها لا تفهم إلا في حال الإضراب وإقفال الطرقات ورمي المسامير، هذه هي اللغة التي تفهمها السلطة الحاكمة، إلا ان القضاة لا يريدون اعتماد هذه الاساليب، بل فضلوا توجيه رسالة الى السلطة مفادها “انكم لا تريدون لـ”العدلية” ان تقوم وبالتالي نحن سنمكث في منازلنا، وعندما تفكرون بتأمين الحد الادنى من مقومات العيش نعود”. معيب ما يحصل، يتابع صادر، هم يطلبون من القاضي إحضار محبرته واوراقه وحاسوبه معه لأن لا قرطاسية في الادارة، وايضا الفانوس لأن لا كهرباء مؤمنة، ومكنسة لتنظيف المكتب، واشتراك موتور، حتى أنهم طلبوا منه شراء صهريج مياه والمشاركة بدفع كلفته لأن لا مياه أيضاً.. فكيف سيتمكن القاضي من تأمين كل ذلك ضمن المئة دولار التي يتقاضاها؟ اصبح الوضع لا يطاق، مقومات العيش الكريم لم تعد متوفرة. فكيف يصمت القاضي؟ لو كنت في الوظيفة لأخذت المبادرة كرئيس مجلس شورى دولة او قضاء أعلى، لأنني أعرف القيمة الحقيقية لهذه الطبقة السياسية، التي لا تفهم الا بهذه الطريقة. فليضرب القضاة ولتعش الدولة من دون قضاء و”تتشرشح” على صنوبر العالم وليس فقط على صنوبر بيروت، هذه الطبقة السياسية لا تأبه للقضاة رغم أنهم سلطة وليسوا موظفين. منذ ثلاثين سنة انتفض القضاة وميزوا أنفسهم عن الموظف العادي، وبالفعل أصدروا سلسلة الرتب والرواتب للقطاع العام وسلسلة خاصة بالقضاء لأن القضاة سلطة، لذلك لا يجوز التعامل معهم كما يحصل اليوم”.

ويتابع: “هل ينطبق ذلك على كل القطاعات والمؤسسات العامة؟ هل الكهرباء مقطوعة في مجلس النواب او الوزراء او رئاسة الجمهورية؟ وهل الاوراق والحبر وغيرها من المستلزمات غير متوفرة؟ هل يجوز ان يحضر القاضي اوراقه والحبر ليطبع عليه الأحكام التي تصدر باسم الشعب اللبناني؟ اصبح القاضي يسلّف الشعب الاوراق والحبر؟ انا افهم القضاة وافهم هذه الانتفاضة. لا يمكن التحدث مع هذه السلطة الا باللغة التي تفهمها. ولا يمكن التحدث بطريقة حضارية مع اشخاص ليسوا حضاريين. ما زالوا يعيشون في دولة المزرعة ولا احد يريد دولة قضاء وقانون”.

ويردف صادر: أوجه صرختي كشخص عاش مع هذه العائلة، انا ابنها واعرف معاناة القضاة. اتمنى الا يتراجعوا عن الاضراب خاصة وأنه موجع ومؤلم. لا نريد البت في القضايا المستعجلة او الانسانية حتى. قبل ان تطلبوا منا ان نعامل الغير بإنسانية تعاملوا معنا بهذه الطريقة، كي نتمكن بدورنا من التعامل مع الشعب بانسانية. السياسيون سيتضايقون اكثر من غيرهم بهذه الخطوة، خاصة وان لديهم امورا كثيرة عالقة لدى القضاة الزلم المحسوبين عليهم. الجميع سيتضرر ولكن كيف سنعبر عن وجعنا. وهنا أستشهد بياسر عرفات الذي كان مستعدا لدفع 100 الف دولار لنشر صفحة في النيويورك تايمز لنشر القضية الفلسطينية عام 1967 عن الفدائيين وتم رفض طلبه، رفع السعر الى 200 الف ولم يقبلوا، لأن اسرائيل تتحكم بالاعلام الاميركي. فقام بخطف طائرة عندها أصبح العالم أجمع يتحدث عن القضية الفلسطينية، العالم لم يفهم الا بهذه الطريقة، في بعض الاحيان يستهلك الانسان كل السبل والدفاعات الحضارية ولكن الطبقة الحاكمة لا تفهم بالطريقة الحضارية.

ويختم: أليس من الافضل ان يقدم 90 في المئة من القضاة استقالاتهم؟ القاضي أصبح مستغنياً، والافضل الا يهدده احد. يهددونه بخسارة مركزه، اين هو هذا المركز؟. لم يعد بامكان السلطة تهديد القضاة، لأنها جردتهم من كل امتيازاتهم. والاهم الا يعود القضاة عن قرارهم قبل ان تتحقق فعليا مطالبهم من تلزيم التنظيفات في قصور العدل وتأمين المازوت للموتورات والقرطاسية ومقومات العيش الكريم وتأمين المحروقات للتنقل وغيرها”.