IMLebanon

خطران على لبنان

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

الأزمة التي انزلق لبنان إليها طويلة، ولا مؤشرات إلى إمكانية الخروج منها بسهولة وفي وقت قصير، لأنّ هناك استحالة داخلية لإقرار إصلاحات بنيوية، ولأن الخارج إمّا البعض منه منشغل بأزماته، وإمّا البعض الآخر غير مستعد على مساعدة دولة عاجزة عن ضبط الفريق الذي يستهدفهم من داخلها.

السيناريو الأكثر وردية وتفاؤلاً ان يتمّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمن المهلة الدستورية، وان تُفضي مشاورات التكليف والتأليف إلى تشكيل حكومة سريعا، ومعروف ان كل مرحلة جديدة تُمنح فرصة سماح من الداخل والخارج، وتُعطي الأمل باحتمال الخروج من الأزمة، فتتنفّس الناس الصعداء نسبياً والأسواق أيضاً.

ولكن لا يبدو ان هذا السيناريو سيسلك طريقه إلى التطبيق لخمسة أسباب أساسية:

السبب الأول، كَون “حزب الله”، وخلافاً للانتخابات الرئاسية السابقة، لم يلتزم بأي مرشّح، ومعروف انه ضابط إيقاع فريقه سياسي، والرسالة الأوضح على هذا المستوى جاءت على لسان السيد هاشم صفي الدين الذي أكد أن الحزب “لا يرشح أحداً إلى رئاسة الجمهورية”، وذهب أبعد من ذلك بالقول: “نحن مع أن نؤجّل النقاش في تفاصيل الترشح إلى رئاسة الجمهورية بانتظار إنضاج الملف الذي بحاجة إلى رويّة وإيجاد مخارج تناسب وضع بلدنا”، ما يؤشّر إلى انّ الحزب غير مستعجل على إعلان موقفه، وهذا مردّه إمّا إلى انه غير قادر على التوفيق بين النائب جبران باسيل والنائب السابق سليمان فرنجية او إقناعهما بمرشّح ثالث، وإمّا ينتظر تطورا معيّنا، والأرجح الترسيم واستخراج الغاز ليبني على الشيء مقتضاه.

ولا يفيد بشيء ان يتفرّد اي مكوِّن في 8 آذار بترشيح رئاسي بمعزل عن بعضه البعض، وهذا ما يفسِّر التريُّث القائم، فيما تقصّد الرئيس نبيه بري ان يشنّ هجوماً على العهد وباسيل ليس بمفعول رجعي، إنما بمفعول مستقبلي في رسالة إلى حليفه الحزب بأنه لا يمكن ان يسير بخيار ترشيح رئيس “التيار الوطني الحر”.

السبب الثاني، كَون مكونات المعارضة التي زَخمّت حركتها ولقاءاتها وتواصلها واتفقت على رفض انتخاب مرشّح من 8 آذار، لا يبدو انها ستنجح بسهولة على الاتفاق على مرشّح واحد، وفي حال نجحت في هذا الاختبار ستدفع الفريق الآخر إلى حسم موقفه، والعكس صحيح، ولكن لا إمكانية لأي فريق في الحالتين بإيصال مرشحه بفعل عدم حيازته لأكثرية الثلثين، وتوجُّههما، على ما يبدو، إلى استخدام الثلث المعطِّل لقطع كلٍّ منهما الطريق الرئاسي على الآخر.

السبب الثالث، لأن توافق فريقي الموالاة والمعارضة على مرشّح واحد ما زال متعذرا بفعل الانقسام القائم من جهة، وعدم نضوج مرشّح التسوية لدى الفريقين من جهة ثانية، ولن يكون متاحا الوصول إلى توافق قبل انتهاء المهلة الدستورية، ما يعني ان الفراغ سيكون حتميا.

السبب الرابع، لأن النائب باسيل يعتبر ان فرصته الرئاسية تبدأ بعد 31 تشرين الأول، ولهذا السبب يركِّز على تأليف الحكومة ليضع هذه الورقة في جيبه ويخوض الانتخابات الرئاسية من موقع حكومي متقدِّم، ويعيد استنساخ المسار الذي سلكه العماد ميشال عون.

السبب الخامس، لأن عواصم القرار إمّا منشغلة بأزماتها، وإمّا غير مؤثرة في استحقاقات من هذا القبيل، ولا حاجة للتذكير بأنّ الفراغ الرئاسي في المرة السابقة دام أكثر من سنتين ونصف السنة، كما ان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عجز عن ترجمة المبادرة الفرنسية التي أعلنها على أثر انفجار 4 آب، وبالتالي لم يتمكّن من تأليف حكومة على رغم الضغط الذي وضعه ومارَسه.

ولكل هذه الأسباب مجتمعة وغيرها لا مؤشرات إلى إمكانية انتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهلة الدستورية، ما يعني ان فصول الانهيار ستتواصل، ويمكن ان تتسارع وتيرته في حال أقدمَ العهد على خطوة غير دستورية إذا لم يُمنح حكومة جديدة واستمرت حكومة تصريف الأعمال، ولا يبدو ان الرئيس المكلف نجيب ميقاتي في وارد إهداء العهد حكومة بشروطه في أيامه الأخيرة، وأقصى ما يمكن ان يوافق عليه إعادة منح حكومته الحالية ثقة مجلس النواب او إدخال بعض التعديلات التقنية الطفيفة عليها قطعاً للطريق على فوضى دستورية محتملة.

وبالتوازي، هناك من يعتبر انه حتى لو تمّ انتخاب رئيس جديد للجمهورية فلن “يشيل الزير من البير”، لأن المنظومة التي حالت دون الإصلاحات المطلوبة في السنوات الأخيرة ستعمد إلى إفشاله ومنعه من تحقيق هذه الإصلاحات التي تحدّ من حركتها، خصوصا انها تتنفّس من الفوضى وعدم الاستقرار والفساد، وبالتالي سيتواصل النزف بانتظار التوصُّل إلى تسوية تعيد هيكلة النظام السياسي.

وعلى رغم مساوئ الوضع الحالي وخطورته، إلا ان الأمور ما زالت ضمن الحالة الصراعية المعهودة وتسجيل النقاط المتبادل، ومن المرجّح ان تستمر هذه الحالة على هذا النحو لفترة طويلة، غير انّ ما يمكن ان يقلب ميزان القوى رأساً على عقب ويرجِّح كفّة فريق على الآخر يتعلّق بتطورين خارجيين بغاية الخطورة على لبنان السيادة:

الخطر الأول النووي الذي مجرّد أن يُعاد العمل بهذا الاتفاق يعني ان إيران ستعزِّز دورها الإقليمي أكثر فأكثر مستفيدةً من رفع العقوبات عنها وغَض النظر الدولي عن أنشطتها المزعزة للاستقرار في المنطقة على أثر اتفاق طال انتظاره، خصوصا انّ الجزء الأكبر من ميزانيتها مخصّص لهذا الجانب المتعلِّق بدورها وتسليحها، وكيف بالحري بعد استفادتها من فكّ القيود عن أرصدتها. وبالتالي، ستعمد إلى توظيف هذا المال بمزيد من تعزيز دورها، والمستفيد الأول سيكون “حزب الله” نظراً لمكانته المميزة في هرميتها وتعويلها على دوره في لبنان والمنطقة، فيما أي اتفاق نووي لا يكون مشروطا بتغيير ممارستها يعني إطلاق أيدي أذرعها والحزب في الطليعة، الأمر الذي يشكل خطرا كبيرا على لبنان لأنّ طهران ستتعامل مع الاتفاق وكأنه بمثابة ضوء أخضر مُضمر لأنشطتها، فيما “حزب الله” سيستفيد من ترتيب إيران لعلاقاتها الدولية ومضاعفة ميزانيته، ما يعني ذهابه إلى محاولة الحسم في الداخل.

وعلى رغم المفاوضات الجارية والأوراق المتبادلة والكلام عن تقدُّم واحتمال اختراق، إلا ان شيطان التفاصيل يمكن ان يعيد الأمور إلى المربّع الأول، خصوصا ان الإدارة الأميركية تخشى من انعكاس هذا الاتفاق، لو حصل، على نتائج الانتخابات النصفية التي كل الاستطلاعات أساساً ترجِّح تقدُّم أخصامها قبل توقيع الاتفاق، وكيف بالحري بعد توقيعه؟ وفي حال جاءت نتيجة الانتخابات لمصلحة الحزب الجمهوري بشكل حاسم لن يتجرأ الرئيس الأميركي على الذهاب قدماً في هذا الملف، كما ان الشروط الإيرانية لا تسهِّل المهمة على إدارة بايدن، وبالتالي من غير المستبعد ان تبقى الأمور عالقة.

الخطر الثاني يكمن في الترسيم الذي يوليه “حزب الله” كل اهتمام لازم، ولم يركِّز في إطلالاته الأخيرة سوى على هذا الجانب، حيث يعتبر ان النووي تقوده طهران وهو يقود الترسيم الذي يرمي من خلاله إلى تحقيق ثلاث خطوات متلازمة: انتزاع شرعية دولية بوجوده ودوره، اي ان يُصار الى التفاوض مع أبو هادي ولو بصورة غير مباشرة في كل ما يتصل بالقضايا اللبنانية والصراع مع إسرائيل على غرار التفاوض مع أبو عمار في مرحلة أولى وأبو باسل في مرحلة لاحقة.

الخطوة الثانية انتزاع صفة الحزب الحاكم على غرار حزب البعث في سوريا او الميليشيا التي يتقدّم دورها على الجيش على غرار الواقع الإيراني، والترويج لفكرة ان الثروة النفطية ضمانتها الثورة الخمينية.

الخطوة الثالثة انتزاع المال المُستخرج من الغاز من أجل توظيفه في الإطباق على السلطة في لبنان، خصوصا انه يُصبح في حالة اكتفاء ذاتي وليس بحاجة لا لصندوق نقد دولي ولا لمساعدات خارجية.

ومن هذا المنطلق أيضاً يشكل الترسيم واستخراج الغاز خطرين كبيرين على لبنان كونهما يُهديان أبو هادي الورقة اللبنانية من خلال دخوله على خط المصالح الأميركية والأوروبية والإسرائيلية، فيما المصلحة اللبنانية السيادية العليا تكمن في فشل الاتفاق النووي قطعا للطريق على تعزيز طهران لدورها الإقليمي، وفشل الاتفاق الترسيمي قطعا للطريق على تعزيز “حزب الله” دوره في لبنان، لأنه في المواجهة الداخلية توازن الرعب يبقى سيِّد الموقف مع تسجيل المعارضة نقاطاً مهمة في مرمى الموالاة وآخرها في الانتخابات النيابية، ولن يتمكّن الحزب من تحسين أوضاعه الداخلية بعدما أوصل لبنان إلى ما وصل إليه، ما يعني ان التقدُّم بالنقاط سيبقى من نصيب المعارضة، ولكن الخطورة الكبرى تكمن في التطورات الخارجية التي تبدأ بالنووي ولا تنتهي بالترسيم مع إسرائيل، والمرشحة في حال حدوثها إلى قلب الطاولة لمصلحة محور الممانعة.