IMLebanon

الاستحقاق الرئاسي: التسوية حتمًا!

كتب نبيل هيثم في “الجمهورية”:

بعدما دخل الملف الحكومي نفق التعطيل ورُكنت الحكومة على رفّ الشروط والمعايير المانعة تأليفها، باتت حواس البلد كلّها مركزة على الاستحقاق الرئاسي. مع لهاث متعب للعثور على أجوبة شافية لمجموعة من الاسئلة التي تشغل الجميع: هل أن هذا الاستحقاق سيجري في موعده ويكون للبنان رئيس جديد في 1 تشرين الثاني 2022؟ أم أنّ لبنان سيدخل في الفراغ الرئاسي وإلى أجل غير مسمّى؟ وهل أن الرئيس الجديد كما يقال، هو رئيس صنع في لبنان؟ ام أن رئاسة الجمهورية محكومة هذه المرة لعوامل واعتبارات وإرادات خارجية لها الكلمة الاولى والأخيرة في حسم الاستحقاق واختيار الرئيس الجديد للجمهورية؟

ما من شك أنّ حلم التربّع على العرش الرئاسي يراود الكثيرين من الشخصيات المارونية، وكلّ واحد من هؤلاء الحالمين يعتبر نفسه الاكثر قرباً من رئاسة الجمهورية، ويدّعي لنفسه المُلك الحصري للمواصفات المؤهلة لجلوسه على كرسي الرئاسة الأولى.

هذا ما يقال فعلاً في الصّالونات والغرف المغلقة.. مع التنويه هنا إلى أن فضيلة كتمان السرّ نادراً ما تلقى مكاناً لها في صالون أو مجلس أو غرفة مغلقة او مفتوحة، فعلى ما درجت عليه العادة اللبنانية، انّه حتّى وإنْ كانت تلك المجالس او الصالونات أو الغرف ما تزال منعقدة، يكون السرّ قد تسرّب منها وانتشر بما يقال وبما لا يقال، وحتّى بما لم يقل مع خلطة بهارات تضفي على هذا السر جدية، او شيئاً من السخرية!

لا أحد من هؤلاء المرشحين المفترضين لرئاسة الجمهوريّة يجلس على مقعد الإطمئنان الكامل. كما لا أحد منهم أيضاً يُدغدغه الاعتقاد بأنّه محظوظ أكثر من غيره بأن تسقط عليه لحظة الحظّ، فيرسو عليه الإختيار ويُخلع عليه لقب رئيس البلاد!

ألّا يشعر أيّ من هؤلاء بالإطمئنان، هو أمر طبيعي ومبرّر أمام مشهد رئاسي يزنّره ضباب كثيف يحجب الوجهة التي سيسلكها، أكان في اتجاه انتخاب رئيس جديد للجمهورية او سلوك الاتجاه الآخر.

الأكيد هنا، هو أنّ أحداً من اللاعبين السياسيين، لا يمكنه الجزم في حصول انتخابات رئاسية في موعدها، بل انّ الترجيح الغالب هو أنّ الرئيس ميشال عون سيسلّم الفراغ؟! ولا ننفي هنا أن ثمّة من يقول العكس؟!

أكثر من ذلك، أن يشعر هؤلاء بإرباك وعجز عن تحديد من هو المرجع الصالح، ومن هو النّاخب الأقوى صاحب الكلمة الأعلى في هذا الاستحقاق لكي يتوجهوا اليه بأوراق اعتمادهم، هو امر أكثر من طبيعي؛ فالمرجع الصّالح مجهول، وكذلك النّاخب الأقوى. وفي هذه الحيرة لمن يتوجّهون؟

الاستحقاق الرئاسي وإن كان وطنياً يعني كلّ اللبنانيين، حيث يتناول انتخاب رئيس البلاد، إنما هو في جوهره استحقاق وطني ومسيحي بشكل عام وماروني بشكل خاص، ولذلك فإن الوجهة الطبيعية للمرشحين المفترضين، هي وجهة مسيحية مارونية؛ رئيس الجمهورية ميشال عون خارجها لعدم امتلاكه قدرة إمالة الدفة كما كان عليه الحال قبل انتخابه قبل ست سنوات.

فهذه الجهة تقع على مثلث بأضلاع لا يبدو أنها تتقاطع، الا انها تعتبر نفسها معابر إلزامية للاستحقاق الرئاسي. والطّريف في الأمر أنّ المرشّحين المفترضين لرئاسة الجمهورية، لا يملك أي منهم جرأة أن يقصد بـ»أوراق اعتماده» أيّاً من أضلاع هذا المثلث؟

فالضلع الأول، هو مرجعية بكركي، فالبطريرك بشارة الراعي الراغب في انتخاب رئيس الجمهورية في بداية المهلة الدستورية بين ايلول وتشرين الاول، سبق الجميع بتحديد مواصفات الرئيس العتيد؛ «رئيس متمرّس سياسيّا، صاحب خبرة، محترم، شجاع، متجرد، رجل دولة حيادي في نزاهته، وملتزم في وطنيته. ويكون فوق الاصطفافات والمحاور والأحزاب، ولا يشكل تحديا لأحد، ويكون قادرا على ممارسة دور المرجعيّة الوطنيّة والدستوريّة والأخلاقيّة». من البديهي هنا افتراض انّ لبكركي مرشّحها التي يتمتع بهذه المواصفات، وتعمل له واسمه يُعلن بحسب توقيت رأس الكنيسة المارونية.

الضلع الثاني، جبران باسيل، بوصفه كما يعتبر نفسه، رئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية ومارونية تحديدا، لكن مواصفات البطريرك لا تنطبق عليه. فهو قدّم نفسه مرشّحا طبيعيا لرئاسة الجمهورية، و»الناخب الأول» في الاستحقاق الرئاسي. ولكنه تبعاً للظروف السياسية وغير السياسية المحيطة به، يدرك في قرارة نفسه أنه خارج السباق، لانعدام حظوظه، ولوقوفه امام جبهة طويلة عريضة من الخصوم التي تسد طريقه الى القصر الجمهوري، بحيث إنْ ترشّح فقد لا ينال أكثر من أصوات نواب تكتله النيابي، هذا اذا اجمع كل التكتل عليه. ومن البديهي هنا افتراض أن أياً من المرشّحين المفترضين لن يورّط نفسه ويحرق حظّه بالعبور على جسر جبران!

الضلع الثالث، سمير جعجع بوصفه كما يعتبر نفسه أيضاً، رئيس اكبر كتلة مسيحية ومارونية في مجلس النواب، بما يضعه في موقع المرشح الطبيعي مع أنه لم يعلن ترشيحه رسمياً، كما يضعه وفق تقديره، في موقع النأخب الأول. وكما هو واضح فإن جعجع الذي سبق وخاض تجربة فاشلة قبل انتخاب الرئيس ميشال عون، قد سلّم سلفاً بأن حظه لا يختلف عن حظ جبران، فضلاً عن انّ مواصفات البطريرك الراعي لا تنطبق عليه أيضا، ولذلك سارعَ في مبادرة لافتة بتبنّي ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون. وخصومه يقرأون في هذه المبادرة حرقاً لاسم قائد الجيش، ويقرأون فيها، من جهة ثانية محاولة لقطع الطريق على المرشحين غير المرغوب فيهم، وتحديدا سليمان فرنجيّة. وتِبعاً لتبني جعجع مرشحا معيّنا، لا تعود هناك أي جدوى في أن يتجشّم أي من المرشحين الآخرين عناء التوجه الى جعجع والبحث معه في ترشيحات أخرى.

في الموازاة تتموضَع سائر القوى على منصّات الرّصد؛ تيار المستقبل منكفىء ولا كلمة له في الاستحقاق، وليد جنبلاط أيضا مع استحقاق توافقي، ومن هنا قد يكون متقاطعا مع مواصفات الراعي، وقد يكون ايضا منفتحا على النقاش حول هذا الاسم او ذاك. ولكن الاساس بالنسبة اليه هو عدم مجيء رئيس يكرّر تجربة ميشال عون.

امّا «حزب الله»، فمقاربته للاستحقاق الرئاسي هذه المرّة مختلفة تماماً عن مقاربته للاستحقاق السابق وتبنّيه للعماد ميشال عون وتمسكه بترشيحه لأكثر من سنتين. والسيد حسن نصرالله قال قبل ايام ان الحزب لم يبدأ النقاش بالاسماء المرشحة، لا مع حلفاء الحزب ولا في داخل الحزب. ولن يكون لـ»حزب الله» أي مرشح لرئاسة الجمهورية بل سنقرر من يدعم من المرشحين الطبيعيين، وان كان الترجيح كما هو معلوم هو دعم خيار سليمان فرنجية.

والرئيس بري، مع المرشح القوي، ليس القوي بعضلاته او بحزبه او ما شاكَل ذلك من مقويات، بل الرئيس القوي الذي يستطيع أن يجمع اللبنانيين ويوحدهم ولا يطرحهم ولا يقسّمهم. هو الآن يكتفي بالإشارة إلى المواصفات، وامّا اسم المرشّح العتيد فينطبق عليه قوله الدائم: «كل أوان لا يستحي من أوانه».

الجَلي في المشهد الرئاسي، أنّ كل القوى المسيحية، والمارونية تحديدا، تعتبر نفسها الناخب الأول والأقوى، وكلّ منها يفصّل «الرئيس» بحسب مواصفاتها، التي تتوازى ولا تلتقي مع مواصفات الآخرين، بل مصادمة لمواصفات الآخرين. فأمام هذه الخلطة السياسيّة المتصادمة، ومع حجم النّكد القائم بين اطرافها، وتشكيكهم ببعضهم البعض ولا ثقتهم ببعضهم البعض، هل يمكن الاتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية صنع في لبنان؟

بالتأكيد لا، ذلك أن أطراف تلك الخلطة المتصادمة يدركون ان لا حول لهم ولا قوة ولا كلمة فصل في الاستحقاق الرئاسي، وحضورهم في المشهد الرئاسي لا يعدو أكثر من شراكة في «صراع مواصفات» لا يقدّم ولا يؤخّر في هذا الاستحقاق. وسيستمرّ حتماً إلى أن تحين ظروف تأتي برئيس جديد للجمهوريّة على بساط ريح تدفعه نفاثات تسوية خارجية. وعلى ما هو واضح فإن تلك النفاثات لم تُشَغّلْ بعد، ولكن حينما تشغّل، ما على المتصارعين سوى الانصياع للتسوية، واستقبال الرئيس العتيد بالتصفيق والتصويت له، ووضع كلّ مواصفاتهم المقدسة في كرتونة المزايدات، وركنها على التتخيتة!