IMLebanon

عهد عون يصدّع القضاء اللبناني ويحوّله إلى تيارات متصارعة

كتب يوسف دياب في الشرق الأوسط:

طوى عهد الرئيس ميشال عون آخر صفحاته، وأقفل خلفه أبواب القصر الجمهوري على شغور رئاسي جديد هو الرابع في تاريخ لبنان، لتفتح بعده صفحات المؤسسات الدستورية المتصدعة، الواقفة على حافة السقوط التام.

تتفاوت نسبة النكبات بين مؤسسة وأخرى، إلا أن السلطة القضائية خرجت من عهد عون مشلولة ومعطلة وواهنة وأقرب إلى التفكك، بعدما أرهقتها التدخلات السياسية وقضت على الأمل ببناء «القضاء المستقل»، الذي كان عنواناً أساسياً في خطاب القسم الذي أطلقه عون فور انتخابه، وظل يردده طيلة ولايته.

تعددت الكوارث التي أصابت الجسم القضائي على مدى السنوات الست الماضية، ولم يسبق للقضاة أن عاشوا حالة الإحباط التي تصاحبهم اليوم، فحملات التجريح والتنكيل استباحت كل المواقع وكل المرجعيات المحصنة ضمن محراب العدالة، واللافت أنها تركزت في الأسابيع الأخيرة على رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود شخصياً، وقد أفرد الرئيس عون أجزاء مهمة من مقابلاته التلفزيونية الأخيرة ومن خطاب الوداع، لمهاجمة القاضي عبود، لتحميله مسؤولية انهيار الواقع القضائي.

الغريب في الأمر أن القاضي عبود الذي اختاره عون شخصياً وعينه في أعلى منصب قضائي، بات هدفاً مباشراً له في محاولة لتشويه صورته وإقالته من موقعه. والسبب – كما تقول مصادر قضائية – أن عبود نظم مع مجلس القضاء الأعلى تشكيلات قضائية أقصت بعض القضاة المحسوبين على رئيس الجمهورية من مواقعهم الحساسة لعدم كفاءتهم وأهليتهم، كما رفضه تعيين قاضية مقربة من عون كمحقق رديف بملف انفجار المرفأ، وأصر على اختيار قاضٍ حيادي متحرر من القيود السياسية.

لم يكن هجوم رئيس الجمهورية على المرجع القضائي الأول وليد ساعته، بل مهّد له نواب وقياديون في التيار العوني، عبر تظاهرات نظمت تحت منزل عبود، وكلمات وصفته بأنه «رئيس مافيا»، قبل أن يلجأ هذا الفريق إلى تقديم شكوى أمام هيئة التفتيش القضائي ضده.

صحيح أن الخيبات بدأت بعد أشهر قليلة على انتخاب عون، وتحديداً مع صدور التشكيلات القضائية التي أعدّها سليم جريصاتي (أول وزير للعدل في عهد عون)، وشكلت انقلاباً فاضحاً على المعايير، حيث نصبت المقربين من رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل في المفاصل الأساسية للقضاء خصوصاً في النيابات العامة. وأعلن وزير العدل الأسبق أشرف ريفي أن «العقلية التي أدارت القضاء بعد وصول عون إلى قصر بعبدا شكلت فضيحة مدوية». وأكد لـ«الشرق الأوسط»، أن جريصاتي «أرسى سياسة قضائية غير مسبوقة، فتدخل بكل شاردة وواردة، ولم تقف تدخلاته مع قضاة النيابات العامة، بل طالت القضاء الجالس، ويكفي التذكير باتصاله برؤساء محاكم والطلب منهم إصدار أحكام مشددة ببعض الملفات، وبعض هذه الاتصالات موثقة بالصوت والصورة». ولفت ريفي إلى أن «أداء غادة عون (المدعية العامة في جبل لبنان) التي جعل منها عون مدعياً عاماً للجمهورية، ويمدد صلاحياتها إلى كل المحافظات، على العقل التدميري في إدارة القضاء»، معتبراً أن «الخطأ القاتل تمثل بقرار تعيين محقق عدلي رديف بملف انفجار مرفأ بيروت، في أكبر مخالفة للقانون، وفي خطوة ترقى إلى مستوى الفضيحة». أما شعارات استقلال القضاء ومحاربة الفساد، فقد نسفتها ممارسات هذا الفريق، على حد تعبير اللواء ريفي، الذي لم يفاجأ بالانقلاب عليها. وقال وزير العدل الأسبق: «تاريخ ميشال عون حافل بالتناقضات والانقلاب على المبادئ، هذا الرجل الذي أعلن حربه على الميليشيات والسلاح غير الشرعي، عندما كان رئيساً للحكومة العسكرية، انقلب على تاريخه وتحالف مع أكبر وأخطر ميليشيا (حزب الله)، ووصل إلى رئاسة الجمهورية بقوة البندقية غير الشرعية، كما أنه تعهد في خطاب القسم بمحاربة الفساد في المؤسسات، لكن الخيبة كانت بدوره في هدم بنيان القضاء وتشريع ثقافة الفساد في لبنان».

لا تختلف مقاربات المعنيين بالشأن القضائي، حول توصيف التدخلات السياسية التي وضعت القضاء في دوامة الشلل والتعطيل، وأكد مصدر قضائي بارز لـ«الشرق الأوسط»، أن «المعضلة الكبرى تمثلت في تعطيل الرئيس عون لمرسوم التشكيلات القضائية الشاملة، لكونها المدخل الأساس لتنقية الجسم القضائي من الشوائب، ووضع القاضي المناسب في المكان المناسب». ولفت إلى أن «التفويض المطلق للقاضية غادة عون، وتطرف الأخيرة في ملاحقاتها سددت ضربة قوية لمصداقية العمل القضائي، خصوصاً أن ملاحقاتها طالت فقط خصوم ميشال عون وجبران باسيل»، لافتاً إلى أن «قرار تعيين محقق عدلي رديف بملف المرفأ خالف الأسس القانونية، وشكّل التدخل الأخطر بعمل القضاء». وذكر أن «أطرافاً سياسية أخرى (الثنائي الشيعي) تعطل التحقيق منذ عشرة أشهر، عبر الدعاوى المقامة ضد المحقق العدلي طارق البيطار، وساهمت بوقف كل الإجراءات».

بعض القضاة آثروا مغادرة محراب العدالة قبل استفحال الأزمة، وأولهم رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر، الذي استقال من القضاء بعد أشهر قليلة من تسلم عون مهامه الرئاسية، الدافع الأساس لهذه الاستقالة سببه نقل صادر من منصبه، لأنه رفض المصادقة على مرسوم يقضي بتعيين قاضٍ مقرب من عون في منصب رفيع، وقد علل صادر الرفض يومها بأن هذا «القاضي المذكور لديه ملفات أمام هيئة التفتيش القضائي، ولا يمكن مكافأته وهو في دائرة الشبهة».

ويتجاوز القاضي شكري صادر محطة إقالته من منصبه التي دفعته إلى الاستقالة من القضاء، ليتحدث عن «النقطة الأكثر سواداً بتعاطي رئيس الجمهورية من القضاء، من خلال تجميد مرسوم التشكيلات القضائية الشاملة منذ أربع سنوات، لأن هذه التشكيلات شملت عدداً من القضاة المحسوبين عليه، ونقلتهم إلى مواقع أخرى لعدم كفاءتهم». وأشار صادر لـ«الشرق الأوسط»، إلى أن رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود «أكبر الذين أصيبوا بالخيبة، فالأخير كانت لديه الإرادة والعزيمة على تنظيف القضاء من بؤر الفساد ومن جزر الأزلام والمحسوبيات، بينما إرادة عون كانت تركز على قطع رؤوس القضاة المحسوبين على خصومه السياسيين». وأكد أن عون «أحبط كل المحاولات التي قام بها مجلس القضاء وبإجماع أعضائه، اعتماد مبدأ الثواب والعقاب وإقصاء القضاة الذين تحوم الشبهات حول أدائهم، وعلى رأسهم القاضية غادة عون، التي تواجه 24 دعوى أمام التفتيش القضائي والمجلس التأديبي بسبب تمردها على رؤسائها خصوصاً مجلس القضاء والنائب العام التمييزي (القاضي غسان عويدات)، ولذلك قرر عون منحها وسام الاستحقاق الرفيع».

لا تقف أزمة القضاء عند تحريك النيابات العامة وفقاً لإرادة هذه الجهة أو تلك، بل امتدت لتطال رأس الهرم القضائي، ولا يخفي شكري صادر مرارته، من «تحويل مجلس القضاء الأعلى في الأشهر الأخيرة إلى تيارات سياسية، عبر تعيين أعضاء جدد تابعين سياسياً للرئيس عون، ما سمح بتطويق رئيس مجلس القضاء سهيل عبود، وبضرب التحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت». واعتبر أن «إصرار عون (عبر وزير العدل هنري الخوري) على تعيين القاضية سمرندا نصار محققاً رديفاً بملف المرفأ يشكل فضيحة كبرى، لأن القاصي والداني يعرف أن هذه القاضية محسوبة على التيار الوطني الحر (الذي يرأسه جبران باسيل)، ومن أشد المؤيدين له». وجزم صادر بأن القاضي سهيل عبود «يواجه الآن وحيداً منظومة السلطة وعلى رأسها عون وجبران باسيل»، مذكراً بأن «محاكم التمييز الفرنكوفونية التابعة لـ120 دولة تنطق باللغة الفرنسية، أعلنت صراحة أن القاضي عبود يقف وحيداً بوجه سلطة الفساد في لبنان، ولذلك لا ننتظر تغييراً في لبنان».