IMLebanon

سذاجة مارونية في الأدغال الإقليمية

كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:

لن يتأخّر موعد بدء المواجهة السياسية العنيفة، والتي ستضج بها مرحلة الشغور الرئاسي. فخلال الايام الاخيرة لعهد الرئيس ميشال عون، انكبّ الاطراف السياسيون وفي طليعتهم فريق عون والنائب جبران باسيل والفريق المقابل، اي رئيس الحكومة المستقيلة نجيب ميقاتي، يسانده رئيس المجلس النيابي نبيه بري، على التخطيط للمواجهة السياسية المقبلة.

فمن المفترض ان تندلع «شرارة» المواجهات في مجلس النواب اليوم، مع الجلسة التي خصّصها بري لمناقشة الرسالة التي كان عون وجّهها إلى المجلس قبل يوم واحد من انتهاء ولايته.

ومن الواضح انّ فريق قصر بعبدا أراد فتح باب المواجهة انطلاقاً من توجيه الرسالة، كونه يدرك سلفاً أنّها لن تؤدي سوى إلى إشعال مواجهات مفتوحة، وانّ فريق ميقاتي، والذي درس جيداً خطة عمل الحكومة المستقيلة في مرحلة الشغور الرئاسي، يريد الاقتصاص من باسيل بالتعاطي معه كفريق سياسي وفق حجمه لا كفريق رئاسي موجود في قصر بعبدا.

اذاً، فالجميع يستعد لبدء مرحلة المواجهات السياسية العنيفة، والتي ستطاول كل الأسلحة المتاحة، بما فيها اسلحة الشحن والتجييش الطائفي والاجتهادات الدستورية. وسيقف «حزب الله» جانباً، كونه لن يفك عرى توأمته مع حركة «امل»، وفي الوقت نفسه لن يترك يد «حليفه» «التيار الوطني الحر»، وهو ما اثبتته محطات عدة سابقاً.

وقد يكون «حزب الله» الذي فشل في تأمين ولادة حكومية كاملة الاوصاف، تحمي ظهره في الفترة المقبلة، كونها ستحتضن مفاوضات اقليمية واخرى على المستوى اللبناني لإنتاج «تسويات» المرحلة المقبلة، سيكتفي بمراقبة تطور المواجهات السياسية الداخلية، في الوقت الذي سينصرف فيه لمتابعة المستجدات الاقليمية الهائلة التي تحصل.

فهو وبخلاف الأطراف السياسية اللبنانية، يدرك جيداً أنّ التطورات الاقليمية هي التي تحدّد الصورة المستقبلية الجاري رسمها للبنان.

ولا بدّ ان يكون «حزب الله» يراقب المؤشرات المذهلة الناتجة من الانتخابات الاسرائيلية الخامسة في غضون 4 سنوات. والمسألة هنا لا تُقاس فقط بعودة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة من خلال فوز اليمين بالغالبية المطلوبة، بل بجنوح الشارع الاسرائيلي في اتجاه اليمين المتشدّد.

فمن المؤشرات التي يمكن استنتاجها سريعاً من الانتخابات الاسرائيلية النقاط الآتية:

1- الإقبال الكثيف على صناديق الاقتراع، فيما كان من المفترض ظهور علامات التعب والملل على الناخب الاسرائيلي بسبب الانتخابات المتلاحقة منذ 4 سنوات، وهو ما يعني انّه في حال التعبئة ويريد دفع الحكومة في اتجاه ترتيب اوضاع جديدة.

2- القفزة الهائلة للمتطرفين في المعسكر اليميني، حيث ترجم ذلك بحيازة حزب الصهيونية الدينية المتطرفة 14 مقعداً وربما اكثر، بعد ان كان حجمه 7 مقاعد فقط. وقد تكون للعمليات الفلسطينية التي حصلت تأثيرها في تعزيز حضور الحزب المتطرف، ولكن ليس إلى هذه الدرجة بالتأكيد.

3- جنوح غالبية الناخبين من أصول روسية في اتجاه معسكر اليمين، وهو يعني وجود تأثير روسي لمصلحة عودة نتنياهو المتخاصم مع إدارة جو بايدن الاميركية.

4- البرودة التي ظهرت على مستوى الناخب العربي وادّت إلى تراجع مستوى الاقتراع.

وهو ما يعني وفق الاستنتاجات السريعة، أنّ الحكومة التي سيشكّلها نتنياهو ستكون الأكثر تطرفاً، مع تصنيف حزب الصهيونية المتطرفة كثاني قوة حزبية من ضمن المعسكر اليميني، وهو ما سيطرح السؤال حول الحقائب التي سيتولاها هذا الحزب وخصوصاً الحقائب الأمنية.

أضف الى ذلك، انّ نتنياهو سيبدو ضمن هذه التشكيلة الوزارية بمثابة جناح «الحمائم» داخل الائتلاف اليميني الحكومي. وهنا السؤال حول السياسة التي ستتبعها الحكومة تجاه فلسطينيي الضفة الغربية، والسعي إلى دفعهم خارجاً.

اما بالنسبة إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان، فإنّ الضمان الاميركي سيلعب دوره، ولكن وفق تدخّل اكبر وجهود اميركية أقوى لحماية الاتفاق.

وهنا تأتي القراءة الثانية للانتخابات الاميركية النصفية المتوقعة بعد ايام، بعد نتائج الانتخابات الاسرائيلية. فالاستطلاعات تشير إلى تقدّم الحزب الجمهوري على حساب الحزب الديموقراطي الحاكم. والواقع انّ الخسارة الديموقراطية في مجلس النواب تبدو شبه حتمية، في مقابل سعي ديموقراطي للمحافظة على الغالبية الضئيلة في مجلس الشيوخ، بغية تحقيق التوازن في الكونغرس. مع الإشارة إلى انّ آخر الاستطلاعات اشارت إلى انّ حماسة مناصري الحزب الجمهوري وصلت الى 64% في مقابل 59% للحماسة عند الديموقراطيين. وانّ ثقة الاميركيين غير الحزبيين بالحزب الجمهوري لمواجهة الأزمة الاقتصادية بلغت 36% في مقابل 12% فقط يثقون بالحزب الديموقراطي. لكن حتى لو نجح الديموقراطيون في مسعاهم إلى التوازن، فثمة سؤالان أساسيان لا بدّ من طرحهما:

الاول، حول الفارق في المقاعد الذي يمكن ان يحصل عليها الجمهوريون في مجلس النواب. فالفارق الضئيل شيء والفارق الكبير شيء آخر. والثاني، حول مدى نجاح المرشحين المحسوبين على ترامب داخل الحزب الجمهوري، وهو ما يجعل النتيجة بمثابة استفتاء مبكر للمرشح الرئاسي للحزب الجمهوري، تماماً كما يجري احتساب نتيجة الانتخابات النصفية بمثابة استفتاء على سياسة الرئيس الاميركي عادة.

وفي كل الحالات، فإنّ التوقعات حتى الآن تؤشر إلى نتيجة ستضعف ادارة بايدن، وهو ما سيرخي بآثاره على مصير الملف النووي مع ايران، واستكمال تطبيق البرنامج الموضوع للشرق الاوسط، لا سيما مع النتائج الانتخابية التي ظهرت في اسرائيل.

اما القراءة الثالثة، فتتعلق بعودة التوتر وفتح باب المواجهات مجدداً بين ايران والسعودية. وهذا ما عكسته الأنباء المتعلقة بتحذير واشنطن السعودية من تهديدات ايرانية جديدة، وعن هجوم ايراني وشيك على أهداف داخل المملكة.

في الواقع، تبدو الساحة اليمنية على قاب قوسين من عودة المعارك اليها، وبالتالي ارتفاع احتمالات استعادة مسلسل استهداف العمق الأمني للسعودية.

واستطراداً، فإنّ التبدّلات الجديدة في اسرائيل والولايات المتحدة والعلاقات الايرانية ـ السعودية تؤشر إلى وجوب تخفيف مستوى التشنج في الداخل اللبناني، والمحافظة على المكاسب السياسية للترسيم البحري، واهمها إزالة خط التماس بين ايران واسرائيل في جنوب لبنان.

لكن حسابات المكاسب الذاتية والشخصية للقوى السياسية لا تُقرأ سوى في كتاب مصالحها الضيّقة لا المصلحة العامة المشتركة. و»حزب الله» الذي يدرك جيداً انّ الأفق محكوم في نهاية الأمر بالتسوية، لا بدّ ان يكون يعمل وفق حدّين اثنين:

الاول، اقليمي، من خلال قراءة التبدّلات الحاصلة والمعادلات الجديدة الجاري إرساؤها. ذلك انّ الاعتقاد السائد هو أن لا مجال لتحقيق اختراق حقيقي على مستوى التسوية في لبنان، إذا لم يكن قد حصلت مسبقاً تفاهمات مع ايران حيال الملف النووي. صحيح انّ الترسيم البحري قد تمّ، لكن الظروف آيلة الى التبدّل، ولا مجال لإنتاج تسويات اقليمية ثابتة في ظل استمرار سياسة العقوبات على ايران. أضف إلى ذلك، السعي لإعادة منح سوريا دوراً ما على مستوى الملف اللبناني. ومن هذه الزاوية يمكن تفسير رفض دمشق فتح ملف الترسيم البحري بينها وبين لبنان، وسط همس بدأ يتصاعد بأنّ لدمشق مطالب ضمنية للقبول بفتح ملف الترسيم البحري، وتتعلق بالاستحقاق الرئاسي اللبناني.

والحدّ الثاني، داخلي، وسط وجود «شكوك» دائمة بأنّ «حزب الله» يريد تعديل النظام السياسي كثمن للسير في تسوية سياسية مستقبلية. وإذا صحّت هذه «الشكوك»، فإنّ تفاقم الفوضى الدستورية والسياسية تساعد للذهاب في هذا الاتجاه، خصوصاً مع وجود رغبة جامحة لدى «التيار الوطني الحر» لنسف دستور الطائف، وهو ما عبّر عنه النائب جبران باسيل مرات عدة من خلال دعوته إلى المداورة في الرئاسات.

واليوم، هنالك شغور على مستوى رئاسة الجمهورية، وسيليه شغور على مستوى حاكمية مصرف لبنان في بداية الصيف المقبل، وشغور على مستوى قيادة الجيش بعد اكثر من عام. وبالتالي، فإنّ إطالة أمد الأزمة في لبنان سيؤدي الى «اهتراء» ثلاثة مواقع كبرى مخصّصة للموارنة، ما يعني إلزام الجميع بإعادة طرح توزيع السلطة في لبنان، ويحصل ذلك بفضل «التناحر» الماروني ـ الماروني، والذي لا يأبه سوى لمصالح ذاتية ضيّقة ما سيجعله ضحية التسويات في نهاية المطاف.

أليس هذا ما حصل في العام 1988 ـ 1990 وأدى في نهاية الامر إلى خسارة امتيازات الجمهورية الاولى؟