IMLebanon

“الكرسي الخاوي”… شخصية العام 2022 في لبنان

جاء في “الراي الكويتية”:

ليس غريباً أن تنطبع سنوات لبنان الأخيرة بمحطات بارزة واستثنائية. هي طبيعة الوضع اللبناني وسِمة الدورة السياسية والأمنية التي شهدت خضاتٍ كثيرة. ولا تشذّ سنة 2022 التي ودّعتْها «بلاد الأرز» غير مأسوفٍ عليها عن هذا المسار، هي التي سجّلت أحداثاً كبيرة تركتْ بصماتها واضحةً على الحياة السياسية.

لم يعد أمراً نادراً أن يحصل فراغٌ رئاسي في لبنان. ورغم أن شغور 2022 هو الرابع في مسارٍ طويل شهد تقلباتٍ وانقلابات سياسية، وأنه يلي فراغاً امتدّ في المرة الأخيرة (بين 2014 و2016) سنتين ونصف سنة، إلا أن خلوّ الكرسي الأولى عقب انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون من دون انتخاب خلَفٍ له حتى الساعة، يأتي مثقلاً بأحداث وتفاصيل رافقتْه ومهّدتْ الطريق إلى واحدةٍ من أسوأ الأزمات السياسية، لأنها المرة الأولى يحلّ الفراغ في ظل حكومة تصريف أعمال.

بدأت 2022 بحكومةٍ كاملة المواصفات برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي كانت وُلدت في أيلول 2021، وانتهتْ بحكومةِ تصريف أعمالٍ وميقاتي مكلّفاً مرة أخرى تشكيل حكومةٍ (عقب انتخابات أيار النيابية) لم تبصر النور قبل نهاية عهد عون.

وهذا الأمر يشكل سابقةً، بعدما كانت حكومة الرئيس تمام سلام وُلدت عشية انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان (2014) لتتسلّم مجتمعةً زمام الحُكْم تفادياً لأزمات داخلية بين الأفرقاء المتصارعين على حقوق تمثيل طوائفهم وأحزابهم داخل مجلس الوزراء.

لكن التوترات السياسية التي سبقت انتهاء عهد عون جعلتْ من غير الممكن تشكيل حكومةٍ كاملة الصلاحيات بعد التباين في وجهات النظر بين ميقاتي والتيار الوطني الحر (حزب عون) حول حصص التيار ورئيس الجمهورية الذي كان يستعدّ لمغادرة قصر بعبدا وأراد صهره جبران باسيل تمكين نفوذه في«حكومة الشغور» وتحويلها منصة لتحسين موقعه في السِباق الرئاسي وما يقتضيه من معركة عض أصابع ضارية.

فمع أن الجميع كانوا متهيِّبين الوصولَ إلى مرحلةِ الفراغ الرئاسي، إلا أنهم كانوا يسلّمون بأن لا انتخابات في المدى المنظور، وكانت القوى الأساسية تتحرك بخطوات بطيئة في مقاربة ملف الرئاسة، في وقت لم تنفع كل الضغوط من أجل تشكيل حكومة تدير دفة البلاد بعدما اعتبر البعض أن حكومة تصريف أعمال ستشكّل عاملاً مسرّعاً لتقصير عمر الشغور ورأى البعض الآخَر أن لا سبب موجباً لـ «مكافأة» عون وصهره في نهاية عهده وإعطائه ما لم يأخذه طوال ست سنوات.

وانتهى عهد عون من دون تشكيل حكومة لتتسلّم حكومةُ تصريف الأعمال مهمات رئيس الجمهورية. لكن القصة لم تنتهِ لأن المشكلة وقعت مجدداً بين التيار الحر وميقاتي على خلفية دعوته إلى انعقاد مجلس الوزراء من دون أسباب ضرورية وطارئة كما كان الاتفاق بين الكتل السياسية في المجلس النيابي وفق التفسير الذي أعطي لتصريف الأعمال في النطاق الضيق.

جلسات انتخابية

وأقفلت 2022 على عشر جلسات لمجلس النواب لانتخاب رئيس جديد، وسط مشهدٍ منقسم بين ترشيح غالبية المعارضة وأحزابها النائب ميشال معوض في مقابل كتلة الأوراق البيض لأحزاب الموالاة.

لكن الأزمة تتمادى وسط ارتفاع عدد المرشّحين علانية أو في الكواليس لرئاسة الجمهورية، فيما المشاورات الخارجية تستمرّ من أجل التوصل إلى اسم توافقي. وهكذا كانت بورصة الأسماء تتوسع وتضيق بحسب تدخّل الدول المعنية واحتمالات موافقة الكتل السياسية على واحد منها.

فهناك مرشّحون معلَنون كصلاح حنين وتريسي شمعون ومي الريحاني وزياد حايك، وهناك مرشّحون متداولة أسماؤهم بقوة كقائد الجيش العماد جوزف عون ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية والوزيرين السابقين جهاد أزعور وزياد بارود ورئيس مجلس إدارة «المؤسسة اللبنانية للإرسال انترناشونال» بيار الضاهر.

ومع ذلك تنتهي السنة على وقع فراغ رئاسي، يُتوقع أن يطول، وسط تعثر المبادرات الإقليمية من أجل التوصل إلى تسويةِ انتخابِ رئيس توافقي، فيما تلوح في الأفق سلسلة فراغات متوقّعة في الأسلاك العسكرية والأمنية وفي إدارات الدولة، وصولاً إلى الحدث الأبرز المتوقع بشغور موقع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في منتصف السنة الجديدة.

انسحاب الحريري

و2022 هي سنة الانتخابات النيابية التي خيّمت فوقها التوترات الداخلية، وقد سبقها حدث سياسي بارز، بإعلان الرئيس سعد الحريري انسحابَه من الحياة السياسية، إذ فاجأ الجميع في يناير بتعليقه العمل السياسي «لأنني مقتنع أن لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي، والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة»، داعياً عائلته في تيار المستقبل لاتخاذ الخطوة نفسها.

لم يشارك الحريري في الانتخابات النيابية التي كادت تطير تحت وطأة الضغوط السياسية لولا قرارٍ خارجي بضرورة إجرائها.

وأفضى الاستحقاقُ النيابي إلى سابقةِ وصول نوابٍ تغييريين (من خارج الأحزاب) بغض النظر عن المصير الذي آلت إليه كتلتهم لاحقاً والانقسامات داخلها وتعثُّر أدائها في محطات أساسية. لكنه حدَث رسم حداً لطبقة سياسية انقلبت عليها تظاهرات 17 تشرين الأول 2019، وأسس مرة أخرى لخسارة «حزب الله» وحلفائه للأكثرية النيابية تماماً كما حصل عامي 2005 و2009.

لكن التاريخ يعيد نفسه تكراراً، إذ لم تتقدّم الأكثرية، وكانت هذه المرة مبعثرة، لتسلُّم زمام الحكم في ظل إصرار الحزب على حكومة شراكة وطنية. وقد سمي الرئيس نجيب ميقاتي لتشكيل حكومةٍ واستمرت الأزمة السياسية من دون أن يتمكن من تأليف حكومة العهد الأخيرة، لتبدأ رحلة جديدة مع استحقاقٍ يحصل للمرة الأولى: فراغٌ رئاسي وحكومة تصريف أعمال تحاول عبثاً أن تقوم مقام رئيس الجمهورية لكنها تصطدم بمعوقاتٍ سياسية وخلافاتٍ واجتهادات دستورية حول طبيعة عملها وطريقة إدارة ملفاتها، ما يشل حركتها ويضع الأفرقاء السياسيين في حلبة صراعٍ دائمة حول الصلاحيات.

ترسيم الحدود البحرية

وعلى وقع العدّ العكسي لخروج عون من القصر الجمهوري، وقّع لبنان للمرة الأولى اتفاقاً غير مباشر مع إسرائيل لترسيم الحدود البحرية جرت «مَراسمه» في الناقورة برعاية الولايات المتحدة والأمم المتحدة.

وأحْدَثَ الاتفاقُ الذي يشكل «الناظم» لاستخراج لبنان الغاز من بحره شرخاً في الحياة السياسية وسط ترحيبٍ شامل به من كل الاطراف، لكن مع انقسام حاد حول الغاية منه.

إذ أن أحزاب المعارضة (خصوم حزب الله) اتهمت الحزب بأنه يسعى إلى تكريس تطبيعٍ مع اسرائيل لأهداف إقليمية من خلال الترسيم البحري رغم التهديدات التي أطلقها ضدّها، فيما دافع التيار الحر والحزب عن الاتفاق باعتبار أنه أمّن للبنان حقوقه وضَمَن له الاستفادة من ثروة الغاز بعد سنواتٍ ومن دون أي اعتراف بإسرائيل، في وقت بدأت تل أبيب رحلة التنقيب عن الغاز في الحقول التي اكتشفتْها.

وإذا كان 2022 سنة خروج رئيس الجمهورية من القصر من دون انتخابِ خلَفٍ له، إلا أن المتغيّر الآخَر الذي طبع السنة هو تكريس تجميد ملف التحقيق في انفجار مرفأ بيروت (2020) بكف يد القاضي طارق بيطار عنه. ولم تكن صدفة أن تنهار أربع صوامع في المرفأ بذكرى التفجير في الرابع من أغسطس، علماً أن الحكومة كانت اتخذت قراراً بهدم الاهراءات.

مشهد القصر الفارغ والأنوار المطفأة، ومشهد الغبار المتصاعد من المرفأ عند انهيار الصوامع، يختزلان حالة بيروت حيث اللا مبالاة السياسية سائدة تجاه أزمات متساويةٍ في التأثيرات السلبية وإن اختلفت هويتها، سياسيةً أو أمنيةً أو اقتصاديةً أو قضائيةً. فيودّع اللبنانيون سنة جديدة من عمرهم غير آسفين عليها، وهو حالهم منذ أن اندلعت الحرب عام 1975 وإلى اليوم.