IMLebanon

الـ”فالنتاين” في لبنان يحترق… في “جهنم الحمراء”

جاء في “الراي” الكويتية:

كل العناوين تصلح لروايةٍ عن الحب في «بلاد الأرز» التي تسير على حبل مشدود فوق أفواه البراكين المالية والسياسية، والتي بات ناسها محرومين من كل شيء، قلوبُهم موجوعة من الجوع أو مذعورة من آتٍ أعظم، فلا يتبقّى لها أن تخفق للحب.

في مثل هذه الأيام من فبراير كانت بيروت تمتلئ فرحاً، والأحمر الوردي يسطع في واجهات المحال التجارية، وترتفع مجسمات «قلوب فالنتاين» في الشوارع والساحات، وتعبق روائح الورود يحملها باعةٌ متجولون أو تحتضنها محال الزهور.

لكن عيد الحب هذه السنة يحلّ على لبنان مغمّساً بكثير من الذكريات البشعة والمآسي، بعد ثلاث سنواتٍ من الحجْر الصحي وكورونا والانهيار المالي الذي حوّل متعة الحياة نقمةً في وطنٍ يحلو لأبنائه أن يظلوا مؤمنين بـ «حزب الحب والحياة»، وكأنه الوجه المكمّل لـ «حزب الحرية والسيادة والاستقلال».

ورغم حفلات فنية عامرة، وسهراتٍ بلون فالنتاين في المطاعم والملاهي، فإن مَظاهر العيد بالكاد حلّت وبدا مشهد الحب رتيباً في بلدٍ عيْنُ أبنائه على عدّاد الدولار الأسود الذي يعمّق سقوطهم الحر في «جهنم الحمراء» وقلوبهم على مستقبلٍ يتّشح بسواد أيامهم الحالية المثقلة بهموم أزمةٍ هي ضمن «TOP 3» الأسوأ التي عرفها العالم منذ 1850.

كل شيء تبدّل في الطريق إلى الحب في لبنان وفي طريقة البوح به التي كانت «تنبض بها» كلماتُ أنسي الحاج وجوزف حرب وطلال حيدر وأشعار نزار قباني، والأصواتُ الهامسة في الأثير من فيروز وصباح الى ماجدة الرومي، ومن أم كلثوم إلى عبدالحليم حافظ وسواهما من مصر، ومن فرنسا اديث بياف وجاك بريل من رعيل الحب الأول والذكريات التي تَغرف من الزمن عبَقاً لا ينسى.

في الطريق إلى الحب اليوم، تَغَيَّرَتْ أحلام الجيل الطالع المفتون بـ «حلاوة» أولى شهور الحب، وتبدّلتْ كلماتُ العشق التي باتت مكتوبةً بعجل على الهاتف الخليوي.

فلا كلمات أنسي على الموضة لجيل جديد، ولا أشعار نزار، أو «قومي طلعي على البال» لطلال حيدر.

ليس وحده صراع الأجيال في مقاربة الحب واحتفالاته هو الذي جعل لـ «فالنتاين» اليوم معنى مختلفاً، على وقع أغنيات راقصة وموسيقى صاخبة، ومع إبداعاتٍ جديدة لا تشبه لوحاتٍ يرسمها عاشقان على رمل بحر بيروت.

فأعياد الحب التي تحتفل بها شابات لبنان وشبانه صارت نوعين، كما حال الانقسام الأفقي بين طبقة أثرياء وفقراء.

وأصلاً أصبح العيد في ذاته حزيناً، في مدينةٍ تغرف من الحزن كل سنةٍ كمشةً جديدة من التراجيديا والمآسي، في التظاهرات وانفجار المرفأ وضحاياه إلى الهجرة الكثيفة لجيلٍ يبحث عن مستقبله خارج الحدود.

أليس مؤلماً أن يرسل أبناء لأهلهم صورَ احتفالاتهم بعيد الحب وهم في باريس أو دبي؟ وأليس حزيناً أن يصبح فالنتاين على بُعد كيلومترات احتفالاتٍ صاخبة واللبنانيون يئنّون من وجع شراء باقة من الورد يبلغ ثمنها مئة دولار أي نحو 7 ملايين ليرة بحسب سعر السوق الموازية، وهم بالكاد يتقاضون هذا المبلغ كراتبٍ شهري، أو يكون ثمنها يوازي ما ستقدّمه الولايات المتحدة شهرياً للجندي اللبناني؟

ومع ذلك تبقى احتفالات عيد العشاق قائمة، وسط انقسامٍ بين فئتين، أولى لم تعد تتعاطى معه بخفْقة الأيام الأولى للحب وعجقته، بل تكتفي بباقة ورد أو علبة شكولا خاصة بالمناسبة (سعرها لا يقلّ عن 30 دولاراً)، وثانية طالعة حديثاً الى مراتب ومراكب العشّاق المفتونين الذين يحوّلون المناسبة عيداً صاخباً.

لا مجالَ لسؤال هؤلاء عن الشِعر ولا عن رواية حب مثالية أو قصيدة تليق بالمناسبة.

فلهذه الفئة كلمات ونماذج و«صور خلوية» وقلوب حمر بأعداد كبيرة تتناقلها شاشات الهاتف وتحفظها بدلاً من رسائل معطّرة أو زهرية اللون.

ولهذه الفئة فنانون جدد على الموضة الحديثة، من لبنانيين وعرب وغربيين، ولها طقوسها وأشكال العشق المجنون الذي يختلط بمتغيّرات الحال اللبنانية التي لم تعد تقْدر أن تؤمّن لهم كزدورة بالسيارة بسبب ارتفاع سعر المحروقات، أو نزهة للتمتع بثلج فبراير وشمسه الحارقة.

والعيد كذلك لفئتين: واحدة من طبقة الأثرياء الجدد وأخرى من الذين لا يزالون يتقاضون رواتبهم بالليرة المنهارة، وبينهما تختلف أسعار الهدايا ومكان السهرات وباقات الورد.

للأولى أسعار تقارب الخيال حين يصبح سعر أقلّ قطعة ذهبية يراوح بين 2 الى 3 آلاف دولار، بحسب إعلانات محال مجوهرات معروفة، الى حجوز فنادق وصالات فخمة خُصصت للاحتفال بعيد العشاق، وبلغت تذكرة الشخص الواحد فيها من 80 الى 200 دولار، وتجاوزتْها إلى أكثر من 700 دولار (VIP) بحسب أسماء الفنانين الذين أحيوا السهرة.

وهذه السهرات تطلبت حجوزاتٍ مسبقة، والقائمون عليها كانوا مسرورين بارتفاع عددها، بعدما أصبحت هذه الحفلات كما في كل مناسبة حصراً بطبقةٍ من الأغنياء ومن الذين يتقاضون رواتب بالفريش دولار.

أما الفئة الثانية فاكتفت بوردةٍ وبسهرة منزلية وبفيلم من وحي المناسبة على «نيتفليكس». إذ حتى بطاقة السينما صارت متعذّرة على فئات شبابية بعدما ارتفع سعرها إلى 200 ألف ليرة.

وهؤلاء باتوا الأكثرية مع تدهور أحوال الطبقة المتوسطة وانسحاق الطبقة الفقيرة التي تتفرّج على سهرات عيد الحب على شاشات التلفزيون اذا تَأَمَّنَ التيار الكهربائي.

ومع ذلك يبقى الحبّ عالقاً في زمنٍ ومكان بين الشعر والرواية والأغنية الفيروزية، وبين أحلام جيلٍ يريد الحب في زمن الرخاء والبحبوحة والأمن، بدل الغربة الدائمة عن وطنٍ كان يُفترض أن يكون موطئاً للحب والسلام.