IMLebanon

الرئاسة أولاً أم الرئيس؟

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

أحد أوجه الخلاف في مسألة الانتخابات الرئاسية يتمثّل في انّ بعض من في الخارج والداخل يُبدِّي الرئاسة على الرئيس، فيما البعض الآخر يُبدِّي الرئيس على الرئاسة. تقارب بعض عواصم القرار المهتمة بلبنان وعدة قوى سياسية الانتخابات الرئاسية من زاوية انّ الأولية هي لانتخاب رئيس للجمهورية، مُطلق أيّ رئيس، بمعزل عن هويته وخطه ومشروعه، وان التحدّي الأساس يكمن في إنهاء الشغور الرئاسي تمهيدا لتكليف رئيس حكومة وتأليف حكومة أصيلة يستعيد معها لبنان الانتظام الدستوري والاستقرار السياسي مع عهد جديد ومرحلة جديدة، بمعنى انّ الرئاسة أهمّ من الرئيس.

وبالمقابل تعتبر عواصم وقوى أخرى انّ الرئيس أهم من الرئاسة للأسباب التالية:

أولاً، المطلوب بإلحاح في هذه المرحلة الخروج من الانهيار المالي الرهيب والذي لا يتحقّق من خلال انتخاب مُطلق أي رئيس للجمهورية، لأنه لو كان هذا الأمر بهذه السهولة لكان نجح الرئيس ميشال عون في فرملة الانهيار، وقد تحكّم وفريقه السياسي بالقرار التنفيذي كله في النصف الثاني من ولايته.

ثانيا، طبيعة المرحلة تتطلّب الانقاذ ولهذا الانقاذ شروط، ومن أبرزها انتخاب رئيس يوحي بالثقة للداخل والخارج معاً ولا يتأثّر بموازين القوى ولديه الاستقلالية التي تمكِّنه من اتخاذ المواقف التي تصبّ في مصلحة لبنان وشعبه، بدءاً من رفضه التوقيع على حكومات محاصصة ومخالفة للدستور ووفق طريقة التشكيل نفسها وكأن لا أزمة تستدعي مقاربات استثنائية في التأليف وغير اعتيادية، وصولاً إلى إصراره على حلّ أزمة الكهرباء ووضع الخطط الإصلاحية وضبط الحدود والمرافق التي تشكل مسرحاً للهدر والتهريب، وما بينهما رفضه كل ما يمسّ بعلاقات لبنان الخارجية وتحديداً مع المملكة العربية السعودية.

ثالثاً، دلّت تجربة الانهيار الى انّ وجود سلطات دستورية فعلية لا يختلف عن عدم وجودها إذا كانت هذه السلطات عاجزة عن تحمُّل مسؤوليتها، وأوليتها مراعاة القوى السياسية وليس المصلحة اللبنانية ودورها في إخراج البلد من أزمته.

رابعا، الإشكالية المطروحة ليست فقط في من يريد تداول السلطة ومن يحول دون هذا التداول، إذ على رغم ان هناك من يعطِّل، عشيّة كل استحقاق رئاسي، الدستور وآلياته الديموقراطية، إلا ان الوجه الأساس للإشكالية يتمثّل بالأزمة المالية التي تتطلّب شخصيات لديها النية والجرأة على اتخاذ القرارات التي تمليها عليها مسؤوليتها الدستورية.

خامسا، المطلوب حلّ الأزمة لا التمديد لها لولاية رئاسية جديدة، ومن الخطيئة إيهام الناس بآمال غير واقعية تفاقم في إحباطها، وليس صحيحا انّ قدر اللبنانيين التعايش مع الأزمة وان يصبح وضعهم مُشابهاً للوضع السوري والعراقي واليمني، وكأنّ المقصود دفعهم إلى الهجرة وتعويد من لا يريد او لا يستطيع الهجرة على حياة لا تشبه النمط الذي اعتادوا عليه.

سادسا، المواقع الدستورية وجدت لإدارة شؤون البلاد والناس وتحسين ظروفهم وأوضاعهم نحو الأفضل، ولم تنوَجِد لتغطية أمر واقع وإدارة الانهيار، وإذا لم تكن قادرة على إخراج البلد من انهياره فلا لزوم لسلطات تمنح الفريق المعطِّل للدولة صك براءة على أفعاله.

سابعا، مع كل أزمة ثمة فرصة، والفرصة اليوم للقطع مع طريقة إدارة الدولة منذ العام 2005 إلى اليوم، خصوصا بعد ان خسر الشعب اللبناني جنى عمره ولم يعد يأبه لما يمكن ان يخسره. وبالتالي، سياسة الترقيع ومزيد من الشيء نفسه لم تعد مقبولة، فإمّا انتخابات رئاسية تشكل مدخلاً لتغيير الإدارة والنهج بما يضع لبنان على سكة الإنقاذ، وإما الاستمرار في شغور يبقى أفضل من رئاسات صورية تُبقي لبنان وسط الانهيار.

ثامنا، على رغم ان الانقسام السياسي العمودي لم يتبدّل منذ خمسة عقود، إلا ان الإدارة السياسية للدولة لم تكن مطروحة يوماً بالقدر المطروحة فيه اليوم. فالنظام السوري أمسك النظام اللبناني بقبضة حديدية، ولكن الشعب اللبناني حافظ على نمط عيشه وكانت المؤسسات تعمل بالحدود المرسومة لها، لأنه أدرك ان الفشل في الإدارة سيرتدّ عليه، وكان همّه إبقاء الأمور تحت السيطرة لإبقاء غض النظر الدولي على احتلاله للبنان. وهذا لا يعني التنويه بمرحلة احتلالية، إنما تسليط الضوء على واقع انّ «حزب الله» الذي ورث النظام السوري بإمساكه بمفاصل الدولة، قاد في سنوات قليلة هذه الدولة إلى الخراب والفشل، لأنه لا يملك الحد الأدنى من طريقة إدارة الدول.

تاسعا، لم تعد صالحة معادلة فلان أو الفراغ، لأنّ الفريق الخصم للفريق الذي يضع هذه المعادلة لا يجد نفسه مضطراً القبول بفلان لن يتبدّل معه الواقع الانهياري والمأزوم، وما صحّ في مراحل سابقة كان سببه الحرص على ما تبقى في البلد، فيما لم يعد اليوم ما يستدعي الحرص عليه.

عاشرا، مع رئيس للجمهورية او من دونه لم يعد باستطاعة «حزب الله» الحفاظ على ازدواجية السلاح والسلطة، وبالتالي عليه ان يختار بين تسليم السلطة أو تسليم سلاحه، لأنّ هذه الازدواجية أوصَلت البلد إلى الحائط المسدود. ومن الصعوبة على الحزب ان يتقبّل هذه الحقيقة، ولكن هذا هو الواقع الذي يتحمّل الحزب مسؤوليته، وهو قد أصبح أمام خيارين: إمّا ان يتمسّك بازدواجية السلاح والسلطة، وهذا هو الواضح، ما يعني انّ لبنان ذاهب بانتخابات او من دونها إلى انهيار شامل وتفكُّك ما تبقى من أوصال الدولة، وإمّا ان يُرخي قبضته عن السلطة طالما انّ أحداً لا يستطيع نزع سلاحه بالقوة، ما يمهِّد لاستعادة الاستقرار السياسي والمالي.

فالحزب أمام خيارات صعبة، وقد أوصَل نفسه بنفسه إلى طريق مقفل، ولم يعد بإمكانه إدارة الدولة وفق النسق الذي اعتاد عليه منذ العام 2005، لأنّ أخصامه الفعليين ليسوا في وارد الدخول معه في أي تسوية بشروطه ولو كان الثمن سقوط الهيكل على رؤوس الجميع، وآخر فرصة أعطيت له نتيجة ظروف معقدة وبدّدها كانت مع انتخاب العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية، وأما اليوم فلا تنازلات ولا تسويات بشروطه، وحتى حليفه في وثيقة التفاهم أصبح على خصومة معه. وبالتالي، عليه ان يختار بين التراجع سلطويّاً وإفساح المجال أمام انتخاب رئيس للجمهورية من خارج صفوفه ولا تأثير له على قراراته وبما يعيد الانتظام الفعلي الذي يقود إلى الاستقرار، وبين التمسُّك بنظرية «الرئيس الذي يحمي ظهر المقاومة»، ما يعني استمرار تراجع الأوضاع في لبنان فصولاً إلى حين انهيار الدولة المركزية التي يُمسك بها ودخول البلد في مرحلة سياسية جديدة تختلف عن المرحلة التي بدأت مع خروج الجيش السوري من لبنان.