IMLebanon

لبنان… “بيت بمنازل كثيرة” أصابها الصُداع والتصدّع

جاء في “الراي الكويتية”:

لبنان «يزحل» عن ماضيه، هويته، ودوره، وكأنّه يُقتاد إلى حتفه مكبّلاً بأزماتٍ سياسية، مالية ونقدية، زجّت غالبية أبنائه في ما يشبه «بؤس لاند» إما أطْبَق عليها الفقر المدقع وإما تعاند على حافته.

ومع الإمعان في ترْك الوطن الصغير «جمهوريةً مقطوعة الرأس» في ظلّ التعقيدات المُسْتَحْكِمة التي تطبع الانتخابات الرئاسية العالقة منذ نحو 5 أشهر والمرشّحة لمزيدٍ من المراوحة السلبية، فإن الانزلاقاتِ المتواليةَ في السياسة والمال والوضع المعيشي تنذر بمزيدٍ من «تعديلات جينية» على مرتكزاتٍ لطالما طبعتْ «بلاد الأرز» وصمدتْ في أيام الحرب والسلم بعدها.

وبات كثيرون يخشون على «بلاد الأرز» من الندوب التي تحفر عميقاً في جسمها المثخن بجراحٍ قد لا تندمل بالضرورة بمجرّد إتمام الاستحقاق الرئاسي.

فلبنان لم يعُد لا «سويسرا الشرق» ولا «لؤلؤة العرب»، صار شيئاً آخَر… وجهُه الحضاري يتغيّر على نحو دراماتيكي.

ذلك الوجه الذي كان يشكّل نموذجاً في الأناقة والرقيّ والريادة يتجه لأن يصبح هشاً، مهشَّماً، شاحباً، شاكياً تتآكله الأزمات المالية والمعيشية وتنخره أيديولوجيات غريبةٌ ونزْعاتٌ انفصاليةٌ، وتقبض على أنفاسه مشاريع ظلامية، ومعها تتحوّل البلادُ والعبادُ بقعاً متفرّقة، مشتَّتة، متناثرة، لكل منها حياتها ونموذجها الخاص في التأقلم مع «أم المحن» التي تعصف بالوطن الصغير.

في الـ «بيت بمنازل كثيرة» (وهو عنوان كتاب المؤرخ كمال الصليبي في لبنان) المنازل مُتَنازِعة، متشقّقة، متطاحنة… والبيوت معتمة يسكنها اليأس، والشوارعُ مُظْلِمَةٌ كالآتي، تقيم فيها الحفر والنفايات، والبلداتُ أشبه بجزرٍ صغيرة تحاول العيشَ على إيقاعها الخاص كأنها تنطوي على نفسها وتنعزل.

لم يَعُدْ ذلك الرابط الذي اسمه السلطة «على عِلاتها» يظلل الجميعَ. وذاك النموذج الفذّ الذي قيل إنه «التنوّع داخل الوحدة»، تَقَهْقَرَ حتى الإنهاكِ. فها هي الانقساماتُ تتأجج على المستويات السياسية والطائفية والاجتماعية في ما يشبه انقلاباً أطاح الطبقة الوسطى ومعه أصبح الفقراءُ معدَمين، والمستورون في عراء، والآمنون في عينِ مِحَنٍ مرشّحةٍ لمزيد من الجولات المتوحّشة مع بلوغ الدولار الأسود أمس العِشرية الثانية بعد المئة ألف مسجّلاً 120 ألف ليرة وما فوق.

الأزمة المالية – المعيشية التي كادتْ أن توحّد اللبنانيين الذين لا ينفكّون يحطّمون «الأرقام القياسية» بمقياسها السلبي، وآخِرها تربُّع بلدهم في المرتبة 136 ما قبل الأخيرة على سلّم «تعساء المعمورة» وفق تقرير السعادة العالمية (نُشر أمس) تليه فقط أفغانستان، سرعان ما زادتْ تشرذمهم بقوةِ سطوة المنظومة الحاكمة فأعادتْ قسمتهم بين معسكريْن، كما حصل في العام 2005 حين افترقوا حيال «الخيارات السياسية» التي تتخذ الآن شكلاً اجتماعياً في نظرةِ كل طرف إلى «مشروع الآخَر» مع تلاشي المشروع الجامع، أي الدولة كمرجعية يستظل خيمتَها الجميع.

في تلك الأيام من العام 2005، وغداة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، انقسم اللبنانيون بين طرفين سياسيين: «8 آذار» و«14 آذار»، وكان الانقسام أفقياً وليس طائفياً.

وللمرة الأولى بعد الحرب (1975 – 1990) اختلط المتظاهرون في قلب بيروت شعبياً واجتماعياً في تحالفيْن عبَرا الطوائف والمناطق.

وإذا كانت اللحظات «الفريدة» التي عبَرت آنذاك (2005) عكستْ وجهاً من وجه «الوحدة» في الاختلاط السياسي والاجتماعي والمناطقي، فإن تظاهرات انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 أعادت تجديدَ هذا المشهد، برفع شعاراتٍ زاوجتْ بين الخبز والحرية، وبين كرامة الإنسان ومحاسبة الفاسدين.

بين 2005 و2023 وما شهده لبنان من زلازل أمنية وسياسية ومالية، كالاغتيالات وتعليق تداول السلطة والانهيارات المالية – الاقتصادية، لم يخرج الخطاب الطائفي إلى الحد الذي وصل إليه اليوم مع استعادة «نغمة» الفيديرالية كاسم حرَكي للحال اللبنانية المأزومةِ إلى حد التورّم الذي يهدد بالانفجار ربْطاً بالأزمة السياسية المعطوفة على الانهيار المالي، والذي يعيد ترسيم المواجهة بين شعاريْ «حب الحياة» و«ثقافة الموت» بما يشبه ما انطوتْ عليه المنازَلة في 2005.

ترفع مجموعاتٌ تعارض «حزب الله» وخياراته عناوين، في حملاتها السياسية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تحمل على ما تسبّبت به «الممانعة» من بؤس وخراب وفسادٍ أينما حلّت، على غرار ما جرى في سورية والعراق واليمن وقطاع غزة، إضافة إلى لبنان، في الوقتِ الذي تعيش الدول الأخرى في العالم العربي صحواتٍ من التقدم والحداثة والانفتاح والتألق، وهي مفارقاتٌ تنطوي على حسرةٍ وتَفَجُّعٍ لِما أصاب بلاد الأرز التي أفضى تبدُّل موقعها إلى تغيُّرِ واقعها رأساً على عقب.

إلى ذلك، أضيف تدريجاً هذا الشعور بالغربة الداخلية بحيث لم يعد شعار الفيديرالية شعاراً طائفياً. صار الانفصال أكثر تجذُّراً من قَبل بين فئتين: واحدة تريد العيش برخاء وأخرى تريد فرضَ إيقاعها في الاستمرار بلبنان من ضمن محورٍ سماه البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة الراعي في عظته أخيراً «فئة الممانعة».

ومع حدة التدهور الاجتماعي والاقتصادي، صار مألوفاً مشهد اللبنانيين الموزَّعين بين فئتين، الراغبين في استعادة أحلام السفر والبحبوحة والعيش الرغيد، والقانعين تحت سقفٍ سياسي باستمرار الأزمة الراهنة.

وفق ذلك تغيّرت وجوه المدن والبلدات بين مجتمعِ حربٍ ومجتمعٍ يفتّش رغم الضائقة الاقتصادية التي ضربتْه عن معنى البقاء بالمستوى المطلوب من تأمين متطلبات الحياة.

كل هذا الانفصال تعيشه أجيال شابة، بعدما أتعبتْ الحربُ أجيالاً مخضرمة، بين عالمين: عالم يعيش على حافة الموت، وعالم يحلم بالأفضل في مجتمعات متشابهة ومتجانسة في رؤيتها لمستقبلِ الحياة بعد 50 سنة من الحرب المتواصلة، مع الخشية الدائمة من أن تندثر أحلامُ جيلٍ بعد آخَر، فيصبح لثقافة الموت معرض دائم في لبنان.