IMLebanon

لهذه الأسباب اشتعلت في الجنوب

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

شكّل الدور الإيراني في المنطقة قلقاً دائماً للعواصم الغربية والعربية وتحديداً الخليجية، وتنقلّت استراتيجية مواجهته بين التصدّي للأذرع الإيرانية، وبين مواجهة المركز المصدِّر للثورة. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: في أي إطار يندرج الاتفاق السعودي-الإيراني؟

أظهر سياق الأحداث في المنطقة بدءاً من الحوثيين في اليمن، مروراً بالحشد الشعبي في العراق والنظام السوري، وصولاً إلى «حزب الله» والمنظمات الفلسطينية، وجود معادلة مقفلة: صعوبة التخلُّص من هذه الأذرع بالقوة، واستحالة قيام دول مستقرة وطبيعية في ظلّ أجسام منظّمة ومسلّحة لا تنضوي تحت سقف هذه الدول.

ولم تنفع كل محاولات التحاور والتعايش مع الأذرع الإيرانية في إرساء بنيان دولتي واستقرار سياسي ومالي، كما لم تنفع محاولات التقارب مع إيران، وكان الانطباع، بأنّ توصُّل المجتمع الدولي إلى اتفاق نووي معها سيجعلها تنضوي تحت السقف الدولي، ولكنها استفادت من هذا الاتفاق من أجل توسيع تمدّدها العسكري وتزخيمه، اي استمر دورها خارج السقف الدولي.

وعلى رغم انّ إيران لم تنجح في حسم الصراع لمصلحتها في الدول التي تتمدّد داخلها، إلاّ انّ أخصامها لم ينجحوا بدورهم في التخلُّص من هذه الأذرع، ما أدخل المنطقة في ستاتيكو من عدم الاستقرار، تستفيد منه طهران، كون انّ مشروعها لا يقوم أساساً على النظرة الحديثة للمجتمعات التي أولويتها تطوير نفسها وذاتها وترسيخ الاستقرار وتحقيق الازدهار لشعوبها، إنما يقوم على نشر الثورة بالوسائل العنفية.

والنماذج التي قدّمتها القيادة الإيرانية بدءاً من إيران نفسها، تفيد انّ مشروع الثورة لا يمكن ان يتآلف مع التنظيم العالمي الذي نشأ بعد الحربين العالمية الأولى والثانية، كونه يتناقض مع جوهر هذا المشروع الرافض لمنطق الدول والحدود والحداثة والتطور، ويعتبر انّ معركته هي تحديداً مع هذا النمط والتوجُّه، فضلاً عن انّ منطلقاته العقائدية ترتكز على العنف كوسيلة أساسية لتحقيق الأهداف المرجوة.

ومشاريع من هذا القبيل كانت قابلة للحياة في أزمنة غابرة، ولكن في زمن العولمة لم تعد الناس تعيش في عزلة عن محيطها والعالم، وأصبحت تقارن أوضاعها بأوضاع غيرها، ولا تجد ما يبرِّر أحوالها المأسوية، ما يجعلها تكتشف عُقم الايديولوجيات التي لا يشكّل الإنسان محورها، فتبدأ بالابتعاد عنها والصدام معها سعياً لنقل النماذج التي تعكس تطلعاتها.

وقد اصطدم مشروع الثورة الإيرانية بعاملين أساسيين: العامل الأول يكمن في التحوّل الكبير الذي قاده الأمير محمد بن سلمان، بدءاً من التطور الهائل داخل المملكة، وصولاً إلى دورها الخارجي ربطاً بعلاقاتها الإقليمية والدولية، الأمر الذي جعل إيران، ليس فقط خارج سباق اللحاق بالمملكة، إنما تفاقمت أزماتها الداخلية والخارجية مع دخولها في حرب أوكرانيا.

العامل الثاني يتعلّق بعدم قدرة الأذرع الإيرانية في حسم الصراع لمصلحتها لا في اليمن ولا في العراق ولا في سوريا ولا في لبنان، لا بل تفقد القدرة على السيطرة تباعاً مع الانهيار المالي الذي لا قدرة لها بالسيطرة عليه، باعتبار انّ اختصاصها القتال لا إدارة الدول.

وانطلاقاً من كل ذلك، يمكن اعتبار انّ مرحلة ما قبل الاتفاق السعودي-الإيراني لم تنجح فيها لا محاولات تطويع طهران واستيعابها، ولا السعي إلى التخلُّص من أذرعها. ولكن إيران في المقابل لم تنجح في فرض إيقاعها، لا في الداخل ولا في الخارج، بل ظهر انّ مشروع ثورتها في أزمة فعلية، وانّ لا قدرة لها على مواصلة الاستراتيجية نفسها، خصوصاً في ظل صعود المشروع السعودي- العربي وتشبيك الرياض علاقاتها مع عواصم القرار.

وبهذا المعنى، فإنّ الاتفاق السعودي- الإيراني يندرج في سياق المحاولة لتغيير وجهة الدور الإيراني من أمني إلى سياسي، ومن نفوذ مزعزع للاستقرار إلى نفوذ يحترم سيادة الدول، والتركيز على المركز لا الأذرع، انطلاقاً من مبدأ انّ تغيير المركز لدوره ينسحب حكماً وتلقائياً على الأذرع، والفارق هذه المرة مقارنة مع المرات السابقة يكمن في الآتي:

أولاً، الحاجة الإيرانية إلى الانفتاح بمعزل عن الأسباب أكانت تنمّ عن قناعة أم شراء وقت لتجاوز أوضاع صعبة داخلية وخارجية، فالأساس انّ هناك رغبة إيرانية واضحة بمدّ الجسور مع المملكة العربية السعودية.

ثانياً، الرعاية الصينية للاتفاق، حيث انّ المعلومات المتقاطعة تؤكّد بأنّ بكين تتابع التفاصيل المملة في العلاقة بين السعودية وإيران، ما يؤشر إلى انّ رعايتها ليست شكلية بل فعلية، وأي تنصُّل إيراني يعني قطع العلاقة مع الصين، وهذا ما لا قدرة لطهران على تحمّله في ظلّ علاقاتها المقطوعة مع العالم كله، وما يؤشر أيضاً إلى انّ السعودية لم تُبرم الاتفاق على رغم مقدماته العراقية والعمانية، سوى في ظلّ الرعاية الصينية، بهدف وجود راع يصعِّب على إيران إمكانية التفلُّت من هذا الاتفاق.

ثالثاً، الدور السعودي الذي زاوج بين النهضة الداخلية، وبين شبكة علاقات إقليمية ودولية أفقد طهران أوراقها الخارجية في مواجهة الرياض، فأصبح أي استهداف للمملكة موضع إدانة واسعة من أصدقاء إيران قبل أخصامها، فضلاً عن انّ المواطن الإيراني، الذي يقارن أوضاعه بالمواطن السعودي، بات يشكّل عامل ضغط على نظامه السياسي.

والمتابع للاتفاق السعودي- الإيراني يلحظ وتيرته المتسارعة بالتواصل واللقاءات والاتصالات والتبادل الديبلوماسي، كما يلحظ بالمقابل التوتير الذي شهدته سوريا ولبنان والساحة الفلسطينية، وكأنّ هناك من أراد إيصال رسالة مفادها بأنّ الاتفاق محصور بين إيران والسعودية ولا يشمل الأذرع الإيرانية باستثناء اليمن كدولة حدودية مع السعودية، لأنّ التوتير الذي شهدته هذه الساحات كان مفتعلاً ومدبّراً، في محاولة للتغريد خارج سرب الاتفاق والسعي لتكريس أمر واقع بأنّ إيران تمون على نفسها لا على أذرعها.

ولكن محاولة إيران الفصل بين ترتيب وضعها مع السعودية، وبين عدم سيطرتها على دور أذرعها، يستحيل ان يُقنع الرياض وبكين، لأنّ الدور الإيراني كل متكامل، والتنصُّل من مسؤوليتها حيال حركة أذرعها لا يمكن تسويقه ولا تقطيعه على أحد، وتشدُّد فصائل الثورة الإيرانية هو محاولة أخيرة للتمايز عن الاتفاق السعودي- الإيراني بهدف حماية طهران استثمارها الطويل والكبير بهذه الفصائل وتحديداً «حزب الله». ولكن هذه المحاولة ستبوء بالفشل لثلاثة أسباب أساسية:

السبب الأول، كون المشكلة مع إيران هي بسبب دورها المزعزع للاستقرار في المنطقة وليس بسبب طبيعة نظامها، الذي الاعتراض او الموافقة عليه من مسؤولية الشعب الإيراني.

السبب الثاني، كون البند الأول المعلن في الاتفاق يتحدّث عن رفض التدخُّل في شؤون الدول الداخلية، وما يهدِّد الأمن السعودي واستطراداً العربي، هو الأذرع الإيرانية لا إيران مباشرة التي لم تعلن الحرب على أي دولة من دول المنطقة.

السبب الثالث، كون الاستقرار في المنطقة يستحيل ولوجه وتحقيقه في ظل مواصلة أذرع إيران دورها المعتاد، فيما لا قيمة للاتفاق معها إذا لم يُعَالَج دورها الإقليمي.

وما تقدّم يؤشر إلى انّ التصعيد الذي شهدته الساحات التي لطهران تأثير عليها، لا يعدو كونه محاولة يائسة للفصل بين المركز والأذرع، وهذه المحاولة ستقود إما إلى تطيير الاتفاق برمته، وإما التزام الأذرع بمضمون تعهدات المركز. والتسوية التي بدأت معالمها في اليمن لن تقتصر على صنعاء، إنما ستمتد إلى بغداد ودمشق وبيروت. ومن يعتقد انّ بإمكانه حصر الاتفاق بالسعودية واليمن يجهل السعودية التي تسعى إلى ترسيخ الأمن العربي في الإقليم، وبالتالي ما شهدته الساحة الجنوبية من مشهدية عنفية ولقاءات جمعت «حزب الله» و«حماس» و«الحرس الثوري»، لا تخرج عن سياق تحييد لبنان عن الاتفاق السعودي-الإيراني، ولكن هذه المشهدية قديمة والسعي إلى إحيائها معدومة، في ظلّ المعطيات المستجدة التي لن تتأخّر لضمّ لبنان إلى المشهدية الجديدة التي عنوانها الأساس تسويات على قاعدة مرجعية الدول لا الميليشيات.