IMLebanon

الحرب الباردة بين أميركا والصين… هل تتغيّر حرارتها؟

كتب أنطوان الحاج في “الشرق الأوسط”:

من التداعيات المباشرة والأساسية للحرب في أوكرانيا عودة أجواء الحرب الباردة وبروز العقلية «التناحرية» التي تسود حالياً العلاقة بين الولايات المتحدة والصين. ومع كل ما يجري في العالم، نلمح الكثير من الشرارات المحتملة التي قد تؤدي إلى صدام بين القوتين الكبريين اللتين تتسابقان على احتلال المركز الأول وقيادة سفينة الكوكب في العقود المقبلة…

كان لافتاً جداً ما قالته قبل أيام وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين وشكّل انعطافة كبيرة في مقاربة علاقات واشنطن مع بكين، من حيّز المصالح الاقتصادية الأميركية إلى حيّز الأمن القومي.

خاض البلدان العملاقان سنوات من الحرب التجارية المريرة لكن المضبوطة، لأن كلاً من الطرفين يحتاج إلى الآخر. ففي عام معولَم، لا يمكن صاحبَي الاقتصادين الأول والثاني إلا أن يتعاونا ضمن قنوات معينة، ويدوّرا في النهاية أي زوايا حادة في مسارات التبادل التجاري.

غير أن الأمر يتغيّر الآن. وإذا نظرنا مليّاً إلى كلام يلين لوجدنا أنها قلبت أسس التعامل الأميركي مع الصين، وأعطت الأولوية لمخاوف الأمن القومي على الاعتبارات الاقتصادية. وهي بذلك تنهي أربعة عقود من التركيز على الاقتصاد والتجارة بين الجانبين. وأكدت السيدة التي عملت طويلاً في الاحتياط الفدرالي (المصرف المركزي الأميركي) وترأسته بين 2014 و2018: «لن نقبل بتسويات تخص مخاوفنا، حتى عندما يفرضون (الصينيون) مقايضات مع مصالحنا الاقتصادية».

يقول محلل الشؤون الأميركية في صحيفة «فايننشال تايمز» إدوارد لوس إن السياسة الأميركية التي ركّزت طويلاً على العلاقات التجارية المتوازنة مع الصين بهدف تحقيق مصالح الشركات الأميركية الكبرى، أتاحت لبكين تحقيق الاستفادة القصوى اقتصادياً وسياسياً. ويعتبر أن محطة أساسية في هذا المسار كانت انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، فحينذاك فتحت الولايات المتحدة أسواقها أمام السلع الصينية، بينما لم تفِ الصين بتعهداتها وأبقت أبواب أسواقها مغلقة جزئياً في وجه السلع المستوردة.

تبع ذلك تقدّم صيني سريع في الميدان الاقتصادي، جعل من العملاق الأصفر يحقق سنوياً معدّلات نمو كبيرة، ورفع الاقتصاد الصيني إلى المرتبة الثانية عالمياً مع الاتجاه بثبات إلى تبوّؤ المرتبة الاولة في غضون بضع سنوات.

رغم نفي الصين المتكرر على مدى عقدين لامتلاكها طموحات جيوسياسة، رأيناها أخيراً، وبعد الحرب الأوكرانية التي كشفت كثيراً من الأوراق على مستوى العالم، تضطلع بأدوار دبلوماسية متقدمة وجريئة، في الشرق الأوسط وأوكرانيا وأفريقيا… ولئن تحرص الصين على الاضطلاع بدور «المُصلح» الذي يريد الخير للجميع انطلاقاً من فلسفتها غير المعلنة المؤمنة بمركزية دور الاقتصاد في تحقيق الوئام، فإن هذا لا يلغي أنها تفرض باطّراد حقيقة أن جبروتها الاقتصادي يمنحها ثقلاً استراتيجياً صريحاً لا لبس فيه.

وإذا كان صحيحاً أن الصين تحتاج إلى عالم يسوده السلام لتواصل «البيزنس» المُربح، فإن منافسها الأول لن يجلس مكتوف اليدين متفرجاً على انزلاق المركز الأول من بين يديه ليصير هو الوصيف. من هنا، يُفهم التخوّف الاميركي من «النيّات العدوانية» الصينية. ويُفهم أيضاً اتجاه إدارة الرئيس جو بايدن إلى اتخاذ تدابير تقلّص نطاق العولمة التي لطالما استفادت منها الولايات المتحدة، لمصلحة حماية «الأمن القومي».

وهذا الأمر إذا حصل واستمر، سيؤثر حتماً على الاقتصاد العالمي، كما حذرت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد التي أبدت تخوفها من أن يؤدي انقسام العالم إلى كتلتين كبيرتين – أميركية وصينية – إلى اضطراب سلاسل الإمداد وتعثّر الاستثمارات الأجنبية المباشرة. وخلصت دراسة للبنك المركزي الأوروبي في هذا الشأن إلى أن الصراع الجيوستراتيجي يمكن أن يرفع التضخم على المستوى العالمي إلى 5٪ على المدى القصير ونحو 1٪ على المدى الطويل. وستتبع ذلك آثار جانبية على السياسة النقدية والاستقرار المالي.

أما صندوق النقد الدولي فيرى في دراسة نُشرت في أبريل (نيسان)، أن تراجع العولمة الاقتصادية سيُبطئ التبادل التجاري والتدفّقات الاستثمارية، ويقدّر أن الناتج العالمي سيتراجع بنتيجة ذلك 2%، وهذه نسبة كبيرة ومؤثرة جداً على مستوى الكرة الأرضية.

في هذا الوضع الجيو – اقتصادي الملبّد بالغيوم الرمادية، تبرز الأخطار الميدانية. وهناك مقولة يعرفها الجميع مؤدّاها أن كل أزمة اقتصادية كبرى لا تُحلّ إلا بالحرب. وبالتالي لا تكون حربٌ إلا لأسباب اقتصادية (يعتقد محللون كثر أن أحد الأسباب الرئيسية «الموجِبة» للحرب الأوكرانية هو منع «الزواج» بين الغاز الروسي والتكنولوجيا ورؤوس الأموال الألمانية… فلنتذكّرْ أن خط أنابيب «نورد ستريم 2» فجّره مجهولون تحت مياه بحر البلطيق… والتحقيقات جارية لمعرفة الفاعل!).

في التموضع المزدوج الأميركي – الصيني نقاط اشتباك كثيرة يُحتمل أن تنفجر أي منها. وتأتي مسألة تايوان في المقام الأول. فلا الصين ستتخلى عن هدف «استعادة» الجزيرة أياً تكن الطريقة المعتمدة لتحقيق ذلك، ولا الولايات المتحدة ستكف عن دعم تايوان بالسلاح والمواقف السياسية مع أنها لا تعترف بها رسمياً كدولة. ومع التحركات العسكرية التايوانية والصينية والأميركية المستمرة في مياه مضيق تايون وسمائه، لا تبدو احتمالات حصول مواجهة «ضيّقةً» على الإطلاق.

في الجانب المائي الآخر، يستمر التوتّر في بحر الصين الجنوبي. وها هي الفلبين تنهي أكبر مناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية في وقت تسعى الدولتان الحليفتان للتصدي لتصاعد النفوذ الصيني في المنطقة. وشارك في هذه المناورات التدريبية السنوية المعروفة باسم «باليكاتان» التي تعني بالفلبينية «جنبًا إلى جنب»، نحو 18 ألف جندي من الجانبين وتضمنت للمرة الأولى إطلاق نار بالذخيرة الحية في بحر الصين الجنوبي. وشملت التدريبات هبوط مروحيات عسكرية في جزيرة فلبينية تقع على مسافة نحو 300 كيلومتر من تايوان.

في اتجاه آخر أيضاً، نرى اليابان تعدّل دستورها لتغيّر عقيدتها العسكرية وتعزز جيشها بأسلحة متقدّمة خوفاً من جارَيها الصيني والروسي. وفي عمق المحيطين الهندي والهادئ، تقرر أستراليا التي دخلت في تحالف «أوكوس» الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وبريطانيا، القيام بأكبر إعادة تنظيم لقواتها العسكرية منذ عقود، مع تركيز استراتيجية جيشها على ردع أعداء محتملين بعيداً عن سواحلها. وقال وزير الدفاع الأسترالي ريتشارد مارليس إن الاستراتيجية القائمة منذ عقود على حماية الأراضي «لم تعد تفي بالمطلوب»، موضحاً أنه في مواجهة الصين ستحول أستراليا تركيزها إلى ردع الأعداء قبل أن يصلوا إلى حدودها، سواء في البحر، أو الجو، أو الفضاء الإلكتروني.

هل تشتعل حرب بين الصين والولايات المتحدة؟

ليس أعلم بالشأن الصيني من الجانب الأميركي أكثر من هنري كيسينجر. فوزير الخارجية في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون كان مهندس التقارب مع الصين، معتبراً ان في ذلك مصلحة كبيرة لواشنطن. وقد حذّر الرجل الذي يبلغ في 27 مايو (أيار) عامه الـ100، في مقابلة مع صحيفة «موندو» الإسبانية في مارس (آذار) الماضي، من أن حرباً باردة بين الولايات المتحدة والصين، ستكون أكثر خطورة من الأولى التي أسفرت عن إنهيار الاتحاد السوفياتي. وأضاف أن الصين والولايات المتحدة تحولتا إلى خصمين، وأن البلدين «لديهما موارد اقتصادية متشابهة، وهو ما لم يكن عليه الحال خلال الحرب الباردة الأولى… الحرب بين واشنطن وبكين يمكن أن تُسقط الحضارة، بل يمكن أن تدمرها تماماً».

الولايات المتحدة انتصرت في الحرب الباردة الأولى لأن الاتحاد السوفياتي الشيوعي افتقد الجبروت الاقتصادي، أما الحرب الباردة مع الصين الشيوعية الغنيّة فمرشّحة بامتياز لأن تصبح ساخنة…