IMLebanon

ما بعد 14 حزيران: الداخل عاجز والخارج غير جاهز

كتب طوني جبران في “المركزية”:

بعد ثلاثة أيام على جلسة “الاربعاء الكبير” استقرت معظم الآراء على ان صفحة جديدة قد فتحت ويمكن الكتابة عليها بمختلف الالوان والخطوط الداخلية والخارجية، العربية منها كما الفرنسية والاميركية ومعهما الفارسية، بانتظار ما ستحمله الأسابيع والأيام المقبلة من تطورات لتعطي المؤشرات الكافية للمرحلة التي دخلتها البلاد، بعدما استعصى على الجميع انتخاب الرئيس العتيد للجمهورية على الرغم من اعلان مختلف الأطراف عن فوزهم بالاستحقاق الذي شهدته البلاد يوم الأربعاء الماضي من دون ان يحقق اي منهم انتصارا لصالح لبنان واللبنانيين. وهو ما أدى إلى قراءة نتائجه بعيون محايدة، فاعتبر ما حصل من منازلة خلت من كل أشكال الديمقراطية البرلمانية من أكبر الفرص الذهبية الضائعة بحثا عن اقصر الطرق الى تقصير ولاية خلو سدة الرئاسة من شاغلها لتبقى البلاد مفتوحة على انتظار ما يمكن ان تنتجه السلطات الاخرى التي افلست وفقدت كل الامكانيات من احياء نفسها واقفال بعض الملفات الخلافية العالقة.

على هذه الخلفيات، تعددت السيناريوهات التي يمكن ان تقود إليها التطورات المرتقبة بين الداخل العاجز والخارج الذي لم يجهز بعد لما يعد له من سلة الأفكار المتداولة بين مجموعة الدول من أطراف “لقاء باريس الخماسي”، ومعهم المسؤولون في مجموعة من الاتحادات والهيئات الاقليمية والدولية التي تناقش ما تشهده الساحة اللبنانية والمنطقة من أزمات لعل أكبرها وأكثرها خطورة أزمة النازحين السوريين في دول الجوار السوري وما انتهت إليه المواجهات التي شهدتها قاعات مؤتمر بروكسيل السابع الذي تناول مستقبل سوريا وما يمكن ان يقوم به المجتمع الدولي لمواجهة المعضلات الناجمة عنها.

وانطلاقا مما تقدم، تقول مراجع دبلوماسية في قراءتها لمستقبل الوضع في لبنان عبر “المركزية” إن الأزمة التي تعيشها البلاد دخلت مسارًا جديدًا لمجرد ان استهلكت الجلسة آخر ما توصلت إليه اللعبة الداخلية في لبنان وأن من راهن على أدوارهم المجتمع الدولي أثبتوا عجزهم المطلق عن انتاج الخطوة الاولى من مسيرة الألف ميل نحو التعافي والانقاذ لمجرد انهم لم يلتزموا بما تعهدوا به من دورات انتخابية مفتوحة من أجل انتخاب الرئيس، قبل ان تتفاقم الأمور إلى مرحلة يعجز فيها الداخل والخارج عن معالجتها ووضع حد لآلام اللبنانيين والمقيمين على أرضه.

وإن دخلت هذه المراجع في التفاصيل، لا يمكنها سوى ان تشهد على خطورة المواجهة المفتوحة بين المنظومة الداخلية وما هو مطروح من قبل أصدقاء لبنان، كمخارج لا يمكن مقاربة اي منها قبل انتخاب الرئيس. فما هو مطلوب دوليا وقبل القيام بأي خطوة ايجابية اقفال مرحلة خلو سدة الرئاسة من شاغلها من اجل ان تنتظم العلاقات بين المؤسسات الدستورية وتوفير المقومات التي توحي بوجود الحد الادنى من الدولة التي تترجمها السلطات الاجرائية والتنفيذية بعد التشريعية ومن أجل تأمين من يمثل لبنان في اي محفل دولي، وخصوصا في هذه المرحلة التي يمكن ان تؤدي فيها التفاهمات الكبرى الى اعادة صياغتها وبناء التحالفات ان تحققت الاهداف التي قصدها “تفاهم بكين” من تصفير الأزمات الناجمة عن الصراع السعودي-الإيراني بوجهيه السياسي والديبلوماسي من جهة والعربي – الفارسي من جهة أخرى، بديلا من الحديث عن الصراع السني – الشيعي بعد ان توسعت المواجهة بينهما وصولا الى مختلف الساحات التي تورطوا فيها بشكل من الأشكال.

ولذلك اضافت المراجع الديبلوماسية، ان مسار “تفاهم بكين” يعاني ما كان متوقعا من صعوبات وعقبات نتيجة الترددات الكبيرة التي خلفها بطريقة تجاوزت قدرات الطرفين على مواجهتها دون العودة الى القدرات التي تمتلكها الأحلاف الدولية الكبرى المفروزة على خلفية الأزمات الكبرى مهما حاول الطرفان تكبير احجامها الاقليمية والدولية. فالمسار الذي سلكته المملكة العربية السعودية يصطدم بالكثير من السيناريوهات الايرانية التي عبرت عن قدرتها على التحكم بالأزمات التي تستخدمها ليس في مواجهتها مع المملكة فحسب إنما لها حسابات أخرى تتصل بالمواجهة مع واشنطن ومجموعة الدول (5+1) بما فيها ملفها النووي. ولذلك برزت العقبات التي تحول دون الاسراع بتنفيذ التفاهمات الخاصة بالازمة الداخلية واعادة تكوين السلطة وتوزيع الخسائر والأرباح على الساحة اليمنية من دون الوصول الى واجهة الازمات الاخرى.

وعليه، استطردت المراجع لتقول إن التفاهمات اليمنية كما ارادتها السعودية لم تكتمل بعد وان طهران التي تستند الى قوة الحوثيين وحلفائهم في اليمن لا يمكنها ان توفر للمملكة كامل ما ارادته لاقفال النزف الحاصل في خاصرتها الغربية – الجنوبية وان ما يعوق تظهريها الى الاعلام مرده الى التفاهم على تجميد الحرب الاعلامية بين الطرفين، الأمر الذي عبر عن انتصار ايراني يتفوق على ما حققه الطرف الآخر منها. فالعالم لم يعد يطلع على ما يجري في ايران من ترددات ازمة حقوق المرأة ومعاناة الشعب الايراني من بعض الأزمات الاقتصادية والمالية عدا عن المظلة التي تحققت بإبعاد ما أنجزته على المستوى النووي عن الاعلام الغربي والعربي بما يسمح لها بحماية امنية بأبعادها المختلفة الداخلية والخارجية بعد لجم المشاريع الاسرائيلية التي يمكن ان تتسبب لها بالمزيد من المخاطر.

واستنادا الى هذه المعادلة الجديدة تبين ان الازمة اللبنانية ما زالت خارج التفاهمات المشتركة بين الرياض وطهران بدليل تعثر كل المخارج والاقتراحات المطروحة لتجاوز أزمته الرئاسية قبل مقاربة الملفات الاخرى وتطويق مخاطرها. فالجانب الإيراني الذي يطمئن لمجرد استناده إلى قدرات “حزب الله” ما زال قادرا على التحكم بالساحة الداخلية اللبنانية بعد السورية والعراقية في ظل التفاهمات مع دمشق على تعزيز فرص الاستثمار السياسي والاقتصادي وجباية المتأخرات المالية بالمليارات من الخزينة العراقية لا يمكنها ان تقبل بالتراجع او مجرد التنازل عن الساحة اللبنانية قبل ان تحقق مكاسب للثنائي الشيعي في النظام فلن تتأخر مهما بلغت الكلفة المقدرة لمثل هذا التحول الذي يهدد به الثنائي.

وفي الإطار عينه، لا تتجاهل المراجع الديبلوماسية الطروحات الجديدة التي بدأت تطل بقرنها بعد فشل “الثنائي الشيعي” بإيصال مرشحها الى رئاسة الجمهورية ولعل ابرزها واكثرها خطورة – بعد الحديث عن اعادة النظر بمواقع السلطة وكيفية توزيعها بين الطوائف والمذاهب – بوصول ما هو مقترح الى التهديد المبطن بحل مجلس النواب والدعوة الى انتخابات مبكرة الذي لا يمكن ان يشكل أكثر من رسالة الى حلفائه بهدف ابلاغه بتقديم استحقاق العام 2026 إلى الأشهر المقبلة وتحجيمهم ولزراعة القلق في نفوس نواب التيار الوطني الحر الذين استفادوا من “الصوت الشيعي” وحلفائه السنة والدروز في أكثر من دائرة انتخابية للاسراع بتفكيك كتلتهم النيابية.

لا تقف الامور عند هذه الطروحات، فإنّ هناك الكثير مما يقال في هذا الإطار لكن الاهم من كل ذلك ان يثبت بالوجه الشرعي عجز الداخل عن اتمام الاستحقاق من دون ان يكون الخارج جاهزا لرعاية أي حلّ أو مخرج. وهو ما يؤدي الى فلتان مختلف الوجوه تزيد منه المخاطر الناجمة عن توسع الشغور إلى مواقع مالية وعسكرية وأمنية رفيعة المستوى تمعن في هزالة السلطة التنفيذية المتمثلة بحكومة عاجزة وفشل السلطة التشريعية في القيام باولى مهامها المتمثلة بانتخاب الرئيس قبل القيام بأي عمل آخر. والأخطر من كل ذلك أنّ الرهان على المبادرات الخارجية لم يحن اوانه بعد، فمن كان يشكل المظلة الواقية والرعاية للأزمات اللبنانية ليس جاهزًا بعد لتقديم العون. وليس هناك اي موعد لامكان التفرغ لتغيير هذه المعادلة. وإلى حينه ستبقى البلاد في مهب السيناريوهات الغامضة.