IMLebanon

الهيئات الشعبيّة… ضرورة

بقلم الدكتور جورج شبلي:

في زمنِ الحربِ التي أُعلِنَت على لبنان، وخاصةً على مناطِقِ السيادِيّين الوطنيّين المُتعَلِّقين به، وقد مورِسَت، آنذاك، كلُّ مُبتَكَراتِ العنفِ، والتّقتيلِ، والقَهرِ، البَلَدِيّةِ والمُستَورَدَة، لإِنهاكِ النّاسِ ودَفعِهم الى الهجرةِ أو الإستِسلام، كلُّ ذلك تنفيذاً لتمريرِ مؤامرةِ حَلِّ قضيّةِ الفلسطينيّين على حسابِ بلادِنا. لن أستفيضَ في البحثِ وفي تقديمِ الحيثيّاتِ والبراهينِ، إثباتاً لِما اتّهمتُ بهِ، في المقدّمة، المجتَمَعَينِ الدّوليَّ والإقليميّ، فالدّراساتُ العديدةُ التي دبَّجَها لبنانيّونَ وأَجانِبُ كافيةٌ لإظهارِ الحقائق. أمّا ما يهمّني، في موضوعِ تَمكينِ شَعبِنا من الصّمودِ خلالَ هذه الحَقبةِ الدّامية، فإنشاءُ ما سُمِّيَ، سابقاً، بالهيئاتِ الشّعبية. وقد حلَّت هذه الهيئاتُ محلَّ مؤسّساتِ الدولةِ المُتَبَخِّرة، لتقديمِ الخدماتِ الضروريّةِ في ظروفٍ صعبة، فكانتِ الحلَّ الأَمثلَ لتوفيرِ الأمنِ الإجتماعيِّ والإقتصاديِّ في المناطقِ غيرِ الخاضعةِ لنفوذِ الغرباء.

نحن، اليوم، نعيشُ الظروفَ نفسَها التي تُماثِلُ ِما كانَت عليه الأحوالُ إبّانَ الحربِ البغيضة، فهمومُ الناسِ فاقَت معدَّلاتِ احتمالِهم إيّاها، من فَقرٍ، وعَوَزٍ، وحاجةٍ للدواءِ والطّبابة، ولُقمةِ العيش، وعَمَلٍ ذي مردود… ما يعني أنّنا نواجهُ حالةَ طوارئ قاسيةً تقتضي، حُكماً، ليسَ التفتيشَ عن حُلولٍ، بل تَفعيلَ الحلَّ النّاجحَ والموثوقَ بالإختبار، وهو الهيئات الشعبيّة.

إنّ نظرةً سريعةً الى ما تقدّمُهُ الدولةُ، اليوم، لأَهلِنا في المناطقِ السياديّة، يَنحَرُ كلَّ واجباتِ المؤسّساتِ الرسميةِ تجاهَ النّاس، ويُظهِرُ استقالتَها أمامَ أبسَطِ الخدماتِ الموكَلَةِ إليها، فالكهرباءُ والماءُ مسلوبَتانِ من دويلةِ الإستقواءِ، وأحزمةِ النّازحين، والرقابةُ على تُجّارِ الفسادِ تآمُرٌ معهم على الفسادِ والسّمسراتِ والصّفقات، ومسؤولو الدولةِ يموّهونَ كلَّ ذلكَ بذرائعَ واهيةٍ كاذبةٍ لا يبدو منها سوى التّقاعسِ الصِّرف. أمّا شطارةُ الدولةِ ففي فرضِ المزيدِ من الرّسومِ، والضّرائبِ، واستيفاءِ ما ليسَ حقّاً لها، من المنطقةِ السياديّةِ التي تدفعُ عنها وعن غيرِها من المحميّاتِ، ومن ناهِبي المالِ العامِ، أصلِيّينَ كانوا أم طارِئين.

أمامَ هذا الواقعِ الذي يُبيِّنُ، بوضوح، إخلالَ أجهزةِ الدولةِ بوظائفِها، وجعلَ المنطقةِ السياديّةِ كَبِشَ مِحرقة، وعن قَصد، فلا أمانَ فيها، ولا حقوق، ولا خدمات، بل قَلَقٌ، وإحباطٌ، وكفرٌ بالحاضرِ وبالمستقبل… أوَليسَ حَريّاً بِمَن يعتبرونَ أنفسَهم مرجعيّاتٍ سياسيّةً، وحزبيّةً، واجتماعيّةً، وثقافيّةً، ودينيّة… أن يجتمعوا، ومن دونِ شروطٍ ومحاذير، ويضعوا الشُّروخَ المُصطَنَعةَ خلفَهم، ويتّفقوا على معالجةِ الوضعِ البائسِ الذي تتخبَّطُ فيهِ المنطقةُ السياديّةُ والتي لم يَعُدْ أهلُها قادرين على الصّمودِ، وعلى احتمالِ الضّغوطِ الدراميّةِ التي ينوءونَ تحتَ ثِقَلِها، وهم قادِمون على إصدارِ بيانِ نَعْيٍ لمفهومِ الثَّباتِ في الأرض، والتصدّي لمحاولاتِ التَّركيع ؟؟؟

إنّ الحلَّ المُتَوفّرَ هو في إعادةِ إحياءِ الهيئاتِ الشعبيّةِ في المناطقِ السياديّة، وتمكينِها من أن تكونَ فاعِلةً، وبأسرعَ ما يكون، فمَسارُ الأحداثِ الذي يتحكَّمُ بالنّاس، والذي أَطبقَ على فُسحاتِ أملِهم، سيقودُهم الى الرِّضى القَسريّ بالهجرة، والى اضمحلالِ عنفوانِهم المسؤولِ عن الصّمود، وهذان الأَمرانِ قد تَغَلغلا في قناعاتِ الكثيرين، فِعلاً. من هنا، لا يجوزُ للقيِّمين على المناطقِ السياديّةِ، بعدَ اليوم، الاكتفاءُ بالتّصريحات، والنّظريّات، والتّطميناتِ الشفهيّة، فذلك لا يقودُ الناسَ المُحبَطين، والفقراءَ، والمحتاجين، الى الرّجاءِ بالأفضل، لأنه ليس سوى ورقةِ تِينٍ واهية، تحجبُ اللّامبالاةَ، وعدمَ القدرةِ على المساعدة، وإدارةَ الظَّهرِ للمسؤوليّة، وفي ذلك خطرٌ مُبين !!!

واستناداً، لا تطلبوا من النّاسِ أن يقفوا، وهم مُكَرسَحونَ وعلى عَكاكيز، ولا تنصحوهم بالصّمودِ وهم يَشتَهونَ اللّقمة، ولا توجِّهوهم الى المواجهةِ وهم مَرضى ولا دواء… كلُّ ذلك يصبُّ في خانةِ التَّراخي، والخَلَل، ما يزعزعُ ثقةَ الناسِ مقدِّمةً لسقوطِهم وجَعلِهم أَنقاضَ بَشَر. ولكي لا يصلوا الى كِفرٍ سافرٍ بالوطنِ، وبأحزابِهم، وقيادِيّيم، ومرجعيّاتِهم الروحيّةِ والعلمانيّة، وربّما بحياتِهم يَأساً ( وهناكَ انتحاراتٌ ومحاولاتُ انتحارٍ عديدة )، ينبغي أن يكونَ أداءُ المرجعيّاتِ، على اختلافِها، عَمَليّاً، وعلى الأرض، وفي كلِّ بيت، ومع كلِّ فَرد، ولا يكونُ ذلك إلّا بتفعيلِ هيئاتٍ شعبيّةٍ تُعنى بمطالبِ الناس، وتسعى لتأمينِ احتياجاتِهم، ومساعدتِهم على الصّمودِ، إجتماعيّاً واقتصاديّاً وتربويّاً واستشفائيّاً… فالسكّينُ لامَسَ الرِّقاب.

أمّا ما يتعلَّقُ باتّهامِنا بعَزلِ المناطقِ السياديّةِ عن سائرِ أجزاءِ الوطن، فتهمةٌ لا يقابلُها مِنّا سوى التَهَكّم والسّخرية، أوليسوا هم البادِئين في إنشاءِ ” غيتواتٍ ” مستقلّةٍ، تماماً، عن الدولة، وكاملةِ الأمانِ إحاطةً، وخدماتٍ، ورواتبَ، وطَبابةً، وتعليماً، وسلامةً، وسوى ذلك، ما يؤكِّدُ على تطبيقِ فدراليّةٍ مُمَوَّهة؟؟؟ إنّ ما يميّزُ مناطقَنا، في هذا المجال، هو الناحيةُ الأمنيّة، فنحنُ نتوكّلُ على القوى الشرعيّةِ في حمايةِ مناطقِنا وأهلِنا، في حين يتولّى هذه المسؤوليةَ، في ” غيتوواتِهم ” سلاحٌ غيرُ شرعيٍّ، خارجٍ عن سلطةِ الدولة.
أمّا مسألةُ تَمويلِ الهيئاتِ الشعبيّة، فقضيّةٌ غيرُ مطروحةٍ على النّاس، فلا شأن لهم بها، بل على القَيِّمين أنفسِهم، فهؤلاءِ قادرونَ على تأمينِ الأموالِ، والمساعدات، والتّقديمات، من مصادرَ متنوّعةٍ، داخليّةً أم خارجيّة، من دُوَلٍ صديقةٍ، وجمعيّاتٍ عالميّة، وبرامج أُمَمِيّة… لذلك، فإنّ إعادةَ الاعتبارِ للقياديّين، والأحزابِ، والمرجعيّاتِ الدينيّةِ والمدنيّة، في المناطقِ السياديّة، مرتبِطةٌ بضَمانِ أمانِ الناسِ اجتماعيّاً واقتصاديّاً، على اختلافِ مضامينِ هذا الأمان.

فيا أيّها القِياديّون، من أهلِ السياسةِ والدّين، هذه فرصةُ عودةِ النّاسِ اليكم، صُموداً ومواجهة، فانتَهِزوها….