IMLebanon

حضارة العنفِ البَشَريّ

بقلم الدكتور جورج شبلي:

إنّ عَظَمةَ سرِّ الحريّةِ تتبدّى في قدرةِ الإنسانِ على الإختيارِ بين الرَّفضِ والقَبولِ في أيِّ مسألة، كأن يتمتَّعَ بإمكانيّةِ تَقَبُّلِ نعمةِ الخير، أو صَدِّها ليتجاوبَ مع دعوةِ الشرّ. وهذا يعني، تماماً، أنّ في ذاتِ الشّخصِ الإنسانيِّ نزعةً استقلاليّةً أو إرادةَ تَحَرُّرٍ تأبى الإنقياد، وتتوقُ الى التمرّدِ على المَفروض، والمُتَلَقّى. وتؤثِّرُ هذه الإرادةُ في تصرّفاتِ الإنسانِ وسلوكِهِ، حتى السّقوطِ في فَقدِ الإحساسِ بالخَير، وترجمةِ الخطايا على أنّها ليسَت آفَة. وإذا كان الشرُّ ينتجُ عن حريّةٍ فاسدة، فهي، في الواقعِ، وللأسف، حريّةٌ قائمة.

ومن نتائجِ السّقوطِ المُدَمِّرِ في الحريّةِ الفاسدة، أنّ الصِّراعَ، فيهِ، بين النّعمةِ والخطيئة، قد استبعدَ النّعمةَ التي تَحثُّ على فِعلِ الخير، وجعلَ الإنسانَ يشتاقُ الى “عبوديّةِ ” الشرّ. إنّ هذا التَّجاوبَ مع هَدمِ النّعمة، أدّى بالإنسانِ الى قَبولِ منطقِ الخطيئة، بِما فيهِ من انطوائيّةٍ، وانغلاقيّةٍ، ورَفضٍ للهويّةِ الغَيريّة، وبالتالي، أصبحَ عنيفاً مع أخيهِ الإنسان. من هنا، أصبحتِ الحضارةُ من دونِ النِّعمةِ والخير، حضارةَ عُنفٍ بَشَريّ، فانتصرَت، بذلك، نظريّةُ ” هوبس ” بأنّ الإنسانَ ذئبٌ على أخيهِ الإنسان، ورأيُ ” سارتر” بأنّ جهنَّمَ هي الآخرون، وشِعرُ المتنبّي: ” أَكُلَّما أَنبَتَ الزّمانُ قَناةً رَكَّبَ المرءُ في القَناةِ سِنانا”.

إنّ مصدرَ هذه الإنحرافاتِ، أو ما يُسَمّى قباحةُ الخطيئة، هو عدمُ الإعترافِ بالآخرِ كآخر، أي تَجاهُلُ الغَيريّةِ، ما يُرَسِّخُ سيطرَةَ الأقوى الذي يسحقُ الأَضعَفَ حتى يُزيلَه، وهذا يعني، تحديداً، أنّ العنفَ هو جوهرُ الخطيئة. وبالرَّغمِ من أنّنا لسنا نُنكِرُ أنّ الكثيرَ من النّاسِ، ومنذُ القِدَمِ، قد عبّروا عن احتجاجِهم على وجودِ الشرّ، والعنف، لكنّ الوقائعَ أثبتَت أنّ العنفَ لم يَعُدْ، كالشرِّ، مسألةً نظريّةً، بل أصبحَ قضيّةً إختباريّةً تشملُ البُعدَينِ العَمَليَّ، والوجدانيّ. وقد اختبرَتِ الجماعةُ البشريّةُ آثارَ العنفِ المُضنِيةَ من موتٍ، وأَلَمٍ، وبُؤسٍ، وظُلم، ما دفعَها الى الإعتقادِ بانّ مجتمعاً يقومُ على الخَيرِ، والسِّلمِ، هو وَهْمٌ وسَذاجة.

ليسَ الإنسانُ خاضِعاً لقوى العنفِ، بِقَدرِ ما هو مُتواطئٌ معها، ومُشترِكٌ في صياغتِها، بل في تاريخِها، ما يُفضي الى مفهومِ المسؤوليّةِ، وذلك، على المُستوَيَينِ الشّخصيّ والجَماعيّ. فتَشويهُ صورةِ العالَم، وتَعكيرُ حياةِ البَشَر، هما حقيقةٌ موجودةٌ بسببِ ارتكابِنا فِعلَ العنفِ الذي هو واقعٌ بَشَريٌّ مبدؤُهُ ليسَ مجهولاً. في المُقابِلِ، وأمامَ هذا العنفِ المُتمادي الذي يجتاحُ العالَم، يحاولُ البعضُ أن يبحثَ عن أَعذار، لتبرئةِ النّاسِ من آثامِهم العنفيّةِ بإحالتِها الى تأثيراتٍ خارجةٍ عن إرادةِ الإنسان، وكأنّ سوءَ التّربيةِ، والعُقَدَ النفسيّةَ، والطّفولةَ التّاعِسةَ، والضِّيقَ النّفسانيَّ، هي من ظروفِ المُطلَقِ، أو من عَمَلِ الغامضِ، أو من تأثيرِ الأَصنام!!!

أمّا ما العملُ لمقاومةِ العنف، فلم تَعُدِ المشكلةُ تأمُّليّةً، بل واجباً أخلاقيّاً، واجتماعيّاً، وسياسيّاً، وإذا قيلَ إنّ المواجهةَ تفوقُ قدرةَ الناس، فهذا يعني أنّ ما يُستَثمَرُ لهذا التصدّي لا يتناسبُ وجسامةَ ما يجبُ القيامُ به. إنّ الإنسانَ المُريدَ، قادرٌ، إذا قصد، على استئصالِ ألوانِ العنفِ، وبالتالي، لن يُقبَلَ عُذرُهُ، إذا قَصَّرَ وفشلَ، بقَولِهِ: لقد فتَّشتُ من أين يأتي العنفُ، لأَصُدَّهُ، فلم أَجِدْ حلّاً …
إنّ مسألةَ العنفِ يُحيلُها بعضُ السّيكولوجِيّينَ الى التمزّقِ الدّاخلي، بحيثُ يجدُ العنيفُ نفسَه غريباً على خشبةِ الزّمانِ والمكان، من دونِ موعدٍ مع الرّجاءِ، فتُتلَفُ فيهِ مقوّماتُ الرّوحِ، والمعرفةِ، والنّقاء، ورموزُ الصّلاةِ والتأمّل، وبدلاً من أن يضطهدَ نفسَه، يتحوّلُ الى اضطهادِ الآخرين، وكأنّ العنفَ الذي يمارسُه أضحى تجربةً لهروبٍ مُمكِنٍ مِن التَمَزّق، وطريقاً مُطلَقاً الى شيءٍ من عودةِ الذّاتِ الى طمأنينتِها، في لذّةٍ ومتعة. كما أنّ بعضاً من السوسيولوجيّين أسندَ الارتكاباتِ العنفيّةَ الى الغريزة، بمعنى تَأَصُّلِ الفِعلِ العنفيِّ في الطبيعةِ الإنسانيّةِ، أو الفِطرة، ليصبحَ طِرازاً من السّلوكِ يندفعُ صاحبُهُ الى طلبِه.

ومع هذا، يصعبُ، في مقامِ هذا البحث، أن نتقبَّلَ تبريراً مُنتَمِياً الى حَيِّزِ التّخفيفِ من مسؤوليّةِ الجريمة، ورَفضِ الإنضباط، فمهما كانتِ الأسبابُ، هناكَ حِرصٌ موضوعيٌّ على إدانةِ العنفِ المسعور، والشّعورِ بالأسف، واللّوعةِ، على مَنْ أُصيبوا بِسِلِّ العنفِ فأَنتجوا ويلاتِه، وعلى مَنْ اسُتقصِدوا بالأعمالِ العنفيّةِ، فدفعوا حياتَهم لَحماً ودَماً وروحاً… عسى أن يُعمَلَ، بجديّة، على إعادةِ التّوازنِ الى سلوكِ العنفيّين، ليتحرّروا من عبوديّةِ العنفِ، ومن ارتمائِهم نحوَ الأَسفل، ويعودوا الى محيطِ الإنسانِ السَوِيِّ، وهذه، بالذّات مسؤوليّةُ المجتمعِ العالَميّ، بمرجعيّاتِهِ وسُلطاتِه، ولو كانَت المواجهةُ طويلةً، ومُكلِفَة، والطّاقةُ المبذولةُ جسيمةً، فالإنتصارُ في معركةِ تَحويلِ العنيفِ الى مخلوقٍ مُتَحرِّرٍ، واعٍ، مُفيد، وإِنْ بشكلٍ تَصاعديٍّ، يبثُّ فيهِ غبطةَ النَّقلةِ من ” أَناهُ ” المهزومةِ الى ” أَناهُ ” المتفوِّقة، ويحقِّقُ لمجتمعِ النّاسِ اتِّصالاً مع الخيرِ، والحقِّ، والجَمال.