IMLebanon

مفتاح الرئاسة في طهران

كتب شارل جبور في “الجمهورية”:

عندما يتمسّك فريق سياسي بموقف غير قادر على تحقيقه سوى عن طريق التعطيل والرهان على تراجع خصمه، فهذا يعني انه لا يريد انتخابات رئاسية.

كيف يستطيع «حزب الله» أن يوفِّق بين إقراره بأنّ ميزان القوى النيابي لا يسمح لأي فريق بانتخاب مرشحه، وبين تمسّك الحزب بمرشحه حتى قيام الساعة؟ فالجملة الأولى تتناقض مع الثانية، فيما المنطق يقول بضرورة البحث عن مرشّح يمثِّل تقاطعاً بين الفريقين، وهذا البحث لا يحصل على طاولة حوار طبعاً، إنما من خلال التقاطعات الثنائية، خصوصاً انّ لائحة الخيارات واسعة، ونموذج التقاطع الذي قدّمته المعارضة مع «التيار الوطني الحر» يشكل بروفا لتقاطعٍ عابِر للكتل الأخرى.

فالمعارضة لم تقل يوماً: «مُرشَحي او الشغور»، إنما سارَعَت إلى الترشيح منذ الدعوة إلى الجلسة الانتخابية الأولى تعبيراً عن جدية وتسريعاً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ولو كان الفريق الآخر لديه النية لإتمام هذا الاستحقاق لَما تردّد في الترشيح والمنازلة الديموقراطية او الدخول في مفاوضات بحثاً عن مرشّح ثالث في ظل ميزان القوى الذي لا يُخوِّل اي فريق انتخاب مرشحه. ولكنه ليس في هذا الوارد بعدما اعتاد، ويا للأسف، على نَمطٍ منذ العام 2005 بأن ينتزع مطالبه من خلال التعطيل من دون أن يأبَه لتطيير نصاب والمجاهرة بالتعطيل والنفس الطويل الذي سيُجبر الفريق الآخر على التراجع.

فالفريق الممانع لا يريد انتخابات رئاسية، إنما يريد انتخاب مرشحه ونقطة على السطر. ولا قيمة طبعاً لمؤسسات ودستور وانتظام وديموقراطية، وقد أكد منذ أيام قليلة «ما زلنا متمسّكين برئيس تيار المردة سليمان فرنجية ولا خيار ثان او ثالث لدينا»، ما يعني «فالج لا تعالج»، أي المزيد من مواصلة التعويل على ظروف خارجية او تراجعات داخلية، وما لم يحصل لا هذا ولا ذاك يبقى الشغور الرئاسي مفتوحاً.

وقد تلقّى في الأسبوع المنصرم وحده صَفعتين: الصفعة الأولى تتمثّل بالبيان الذي صدر عن اجتماع اللجنة الخماسية، الذي هو كناية عن ورقة مبادئ سيادية تشدِّد على النصوص المرجعية ذات الصلة بالمسألة اللبنانية: اتفاق الطائف، مقررات الجامعة العربية، وقرارات الشرعية الدولية… كما تشدِّد على ضرورة تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية الأساسية، والإصلاح القضائي، وتُحَمِّل النواب مسؤولية انتخاب الرئيس من عدمه مع تلويح بالعقوبات على النواب والكتل الذين يعرقلون الانتخابات الرئاسية، وتتحدّث عن مواصفات الرئيس الذي يجب انتخابه: نزيه، إصلاحي، تكون أولويته لبنان والشعب اللبناني.

فالمدخل لحلّ الأزمة الرئاسية، بالنسبة لاجتماع الخماسية، يكون من خلال تَحَمُّل الكتل والشخصيات النيابية مسؤوليتها بالذهاب لانتخاب رئيس للجمهورية كما ينص الدستور وتِبعاً للآلية الانتخابية المتمثّلة بالدورات المتتالية، وهذه رسالة واضحة من الدول الخمس بأنّ الانتخابات تحصل عن طريق صندوقة الاقتراع وليس طاولة الحوار.

الصفعة الثانية جاءت في الرسالة التي وجّهها المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان في مناسبة رأس السنة الهجرية في 18 الجاري، والتي قال فيها: «الجميع يقولون بالطائف والدستور. والدستور حَدّد مساراً واضحاً لانتخاباتِ الرئيس، فلماذا لا نَتَّبع هذا المسار الواضح، دونما اتِّهاماتٍ مُتبادلة، وتعطيل ما لا يَصِحُّ تَعطيلُه؟»، والمقصود أيضاً رفض الحوار لانتخاب رئيس الدولة، إنما اعتماد ما ينصّ عليه الدستور.

والرفض المزدوج للحوار الذي جاء في بيان الخماسية وفي رسالة المفتي يؤكد المخاوف السعودية والسنية والسيادية من حوار يُفضي بالحد الأقصى إلى تعديل اتفاق الطائف، وبالحدّ الأدنى إلى مزيدٍ من تكريس الأعراف التي شَوهّت هذا الاتفاق.

وبعد أن لمسَ الحزب انّ باب الضمانات مقفل، وانّ الاتفاق مُسبقاً على رئيس الحكومة والحكومة غير مُتيسِّر، أعاد التشديد على نهائية خيار مرشحه بعيداً عن أي منطق سياسي، فلا الدورات الانتخابية واردة في قاموسه، ولا استعداد لديه للذهاب إلى تسوية على قاعدة التقاطع ضمن مساحة مشتركة، ما يعني انه سيواصل السياسة الانتظارية إمّا لتراجع بعض مكونات المعارضة، وإمّا لتراجع حليفه المسيحي. ولكن لا مؤشرات إلى أي تراجع، لأنّ الأخير يرى في انتخاب مرشّح الحزب نهايته، فيما المعارضة ترى في خطوةٍ من هذا القبيل تمديداً للأمر الواقع وقطعاً لآمال التغيير.

وما تقدّم يُفيد ان لا انتخابات رئاسية سوى في حال تراجعَ الفريق المُمانع عن مرشحه، وطالما انه لن يتراجع لملاقاة أخصامه في منتصف الطريق، والذين لديهم كامل الاستعداد لذلك شَرط ان يكون لدى المرشّح المؤهلات المطلوبة ولا يخضع لأجندات فئوية، فهذا يعني انّ الشغور طويل جدا، لكنه يعني أيضا ان لا حلّ لأزمة الرئاسة من الباب اللبناني. وبالتالي، مَن يستدعي تدخُّل الخارج في الشأن اللبناني هو الفريق الممانع الذي يمنع انتخاب رئيس للجمهورية، إن كان بإقفاله أبواب الانتخابات أو بإصراره على مرشحه خلافاً لموازين القوى القائمة.

وقد استدعى الفريق الممانع الخارج مرتين: المرة الأولى عندما راهَن على المبادرة الفرنسية لانتخاب مرشحه الرئاسي، ووضعت باريس كل ثقلها لإنجاحها، ووصلت إلى حدّ تَوسُّل موافقة السعودية وتدخّلها، ولا حاجة للتذكير بالكلام حول انّ باريس أقنعت الرياض، والرياض ستطلب من أصدقائها في لبنان الموافقة على المبادرة الفرنسية. وبالتالي، إنّ مَن استدعى الخارج وراهَنَ عليه لكسر ميزان القوى الداخلي هو الفريق الممانع الذي يدّعي بأنه ضد الاستكبار والاستعمار والإمبريالية، ولكنه لا يتردّد لحظة واحدة في توظيف هذا الخارج ضد أخصامه من اللبنانيين.

أمّا المرة الثانية فكانت وما زالت بإقفاله أبواب الانتخابات الرئاسية، فاللجنة الخماسية لم تلتئم في المرة الأولى والثانية سوى لمساعدة لبنان على الخروج من النفق الرئاسي في ظل مخاوف عواصم القرار من أن يُفاقم الشغور حالة الانهيار ويؤدي إلى سقوط الهيكل اللبناني ودخول البلد في فصل جديد من الفوضى والعنف. ولو جَرت الانتخابات الرئاسية لَمَا انوجَدَت اللجنة الخماسية أساساً. وبالتالي، إنّ السبب الرئيس لتدخل الخارج هو الممانعة بدءاً من تعطيلها الدستور، ووصولاً إلى تعطيلها الانتخابات الرئاسية.

ومَشكورٌ أي خارج يتدخّل لوقف الانقلاب المتمادي على الدستور اللبناني، ومن الضروري التمييز بين تدخُّلٍ يخطف الدولة ويحوِّل لبنان إلى ساحة، وبين تدخُّلٍ هَدفه تحرير الدولة وإعادة الاعتبار للبنان الوطن، خصوصاً ان الشق الرئيس من الأزمة اللبنانية خارجي، بدءاً من الثورة الفلسطينية، مروراً بالاحتلال السوري، وصولاً إلى الثورة الإيرانية.

ومع تحوّل لبنان إلى ورقة، وتَنَقُّل هذه الورقة من دمشق-الأسد إلى طهران-خامنئي. ومع إصرار فريق الممانعة في لبنان، والذي قراره في إيران، على منع الانتخابات الرئاسية سوى في حالة واحدة وهي انتخاب مرشحه. ومع رفض المعارضة الإذعان لشروط الممانعة وإصرارها على سلطة تنفيذية، بدءاً من رئيس الجمهورية، غير خاضعة لموازين القوى وتعمل بوحي المصلحة اللبنانية فقط لا غير. فإنّ كل ذلك يعني ان لا انتخابات رئاسية سوى من البوابة الخارجية، ولا حاجة لأن يُزعج الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان نفسه بجولات لبنانية ستكون حُكماً مضيعة للوقت، لأنّ مفتاح إنهاء الشغور الرئاسي هو في طهران لا في بيروت الفاقِدة لقرارها بسبب الممانعة.

فالمبادرة المطلوبة من اللجنة الخماسية تكمن في التواصل مع إيران وتحميلها مسؤولية الشغور الرئاسي في لبنان، وضَمّها إلى الخماسية ومطالبتها بأن يُنفِّذ الفريق المرتبط بها في لبنان البنود التي وردت في البيان الذي صدر على أثر الاجتماع الثاني للجنة في الدوحة. فلا حلّ للأزمة الرئاسية في لبنان سوى عن طريق اللجنة الخماسية وحوارها مع إيران، فهل ستبادر اللجنة في هذا الاتجاه؟