IMLebanon

ألغام سياسية تحاصر المحقق في تفجير المرفأ

كتب يوسف دياب في “الشرق الأوسط”:

عاماً بعد عام، تضيق مساحة الأمل لدى اللبنانيين بالوصول إلى معرفة الحقيقة الكاملة وراء انفجار مرفأ بيروت أو تفجيره، فيما يكبر الحزن والأسى لدى أهالي الضحايا والمصابين الذين لم تبرأ جراحهم، ولا أولئك الذين دُمّرت بيوتهم أو فقدوا مصدر رزقهم جرّاء هذه الكارثة. ومع حلول الذكرى الثالثة للتفجير المدمّر يرتفع منسوب الغضب لدى هؤلاء جميعاً، جرّاء الحصار السياسي الذي يلفّ التحقيق العدلي المتوقف كليّاً منذ 19 شهراً بفعل عشرات دعاوى الردّ والمخاصمة المقامة ضد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، وقطع الطريق على كلّ محاولات فتح الباب أمام مسار العدالة من جديد.

كل المعطيات المتوفرّة، تفيد بأن قاضي التحقيق العدلي أنجز ما يزيد عن 70 في المائة من مهمّته، وبات قاب قوسين أو أدنى من إعلان حقيقة ما حصل في الرابع من أغسطس (آب) 2020، لكن ذلك لا يكفي، طالما أن عجلة التحقيق متوقفة منذ أصدر البيطار لائحة الادعاء وضمّنها أسماء سياسيين كبار، أبرزهم رئيس الحكومة السابق حسان دياب، ووزير المال السابق علي حسن خليل، ووزيرا الأشغال السابقان غازي زعيتر ويوسف فنيانوس، بالإضافة إلى المدير العام للأمن العام (السابق) اللواء عباس إبراهيم، والمدير العام لأمن الدولة الحالي اللواء طوني صليبا، وقائد الجيش السابق العماد جان قهوجي.

الفريق المتضرر من التحقيق بجريمة المرفأ لم يقف عند محاصرة المحقق العدلي وتقويض دوره فحسب، بل تمادى أكثر ونجح في شقّ صفّ أهالي الضحايا الباحثين عند العدالة، وبدل أن يصوّب هؤلاء الأهالي على ملاحقة المتسببين بالانفجار وقتل أبنائهم، حولوا هجومهم على المحقق العدلي وطالبوه بالتنحّي، متهمين إياه بـ«تسييس القضية وتضييع الحقيقة».

مطلع العام الحالي، وبعد 12 شهراً على تعطيل التحقيق، تمكّن البيطار من تحريك المياه الراكدة، فأصدر اجتهاداً قانونياً اعتبر فيه أن «المحقق العدلي لا يخضع لدعاوى الرد طالما أنه ينظر في جريمة تطال أمن الدولة والسلم الأهلي، ولأن مهمته تختلف عن مهمة قاضي التحقيق العادي». وقرر إصدار لائحة ادعاء جديدة ضمنها أسماء: النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، والمحامي العام التمييزي القاضي غسان الخوري، والقاضيين في أمور العجلة كارلا شواح وجاد معلوف، وحدد مواعيد لاستجوابهم مع السياسيين المدعى عليهم والقادة الأمنيين المذكورين.

هذا القرار المفاجئ أحدث صدمة كبرى لدى الأوساط القانونية والسياسية. لم يتأخر ردّ القاضي غسان عويدات عليه، فسارع إلى رفض تسلم أي ورقة من المحقق العدلي أو تنفيذ المذكرات التي تصدر عنه، واتخذ قراراً يقضي بالإفراج الفوري عن جميع الموقوفين بالملف دفعة واحدة، واتبعها بالادعاء على البيطار بجرم «انتحال صفة محقق عدلي واغتصاب سلطة، ومنعه من السفر، ولوّح عويدات بإصدار مذكرة إحضار بحقه وتكليف جهاز أمن الدولة بتنفيذها، وكانت الخطة تقضي باعتقال المحقق العدلي فور حضوره إلى مكتبه في قصر العدل، غير أن المساعي التي بذلها رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، والاتصالات واللقاءات التي أجراها مع عويدات والبيطار، ومع وزير العدل القاضي هنري الخوري، نجحت بنزع فتيل تفجير القضاء من الداخل، وترجم ذلك بإعلان البيطار تأجيل جلسات التحقيق التي كان مقرراً انطلاقها اعتبار من 6 فبراير (شباط) الماضي، إلى مواعيد تحدد لاحقاً، وعزا أسباب التأجيل إلى أمرين: الأول البت بدعوى عويدات ضده، والثاني تسوية النزاع مع النيابة العامة التمييزية التي تشكل ممراً إلزامياً لتنفيذ مذكراته، إلا أنه لم يتحقق شيء منهما حتى الآن، رغم قرار رئيس مجلس القضاء بتعيين الرئيس الأول لمحاكم الاستئناف في بيروت القاضي حبيب رزق الله، قاضي تحقيق وتكليفه مهمة استجواب البيطار؛ لتبيان حقيقة ما إذا كان منتحل صفة محقق عدلي أم لا.

حالة الترقّب والقلق من تجميد المسار القضائي لا تقف عند أهالي الضحايا وغالبية الشعب اللبناني المتضامنة معهم فحسب، بل تقع تحت المجهر الدولي، فثمة دول غربية سقط لها ضحايا وعلى رأسها فرنسا، تضع القضاء اللبناني برمته تحت المجهر، ولا تتوقف عن إرسال المذكرات التي تستفسر فيها عن أسباب تعطيل التحقيق، وتسأل عمّا يفعله البيطار بانتظار البتّ بالدعاوى المقامة ضدّه، فتردّ أوساط مطلعة في قصر العدل بأن المحقق العدلي الذي يلازم منزله «ينكب على دراسة أوراق الملف». وتحاول هذه الأوساط تبديد الأجواء القاتمة، وتؤكد لـ«الشرق الأوسط» أن «التحقيق سيستكمل وسيصل إلى النهاية التي يتوخاها أهالي الضحايا وكلّ اللبنانيين». وتشير إلى أن البيطار «وصل إلى مرحلة متقدمة، وهو مقتنع بأن الملفّ سيبلغ خواتيمه، ولو كان لديه شكّ باستحالة إنجاز مهمته لكان تنحّى عن الملفّ منذ أشهر طويلة». وبرأي هذه الأوساط فإن البيطار «يدرك أنه يتسلّم ملفاً كبيراً وخطيراً، وأن مهمته محفوفة بالألغام، ورغم ذلك قَبِل المهمّة التي كلفته بها الدولة اللبنانية ومؤسسة القضاء، ويعتبر أن العراقيل التي تواجهه ليست مستغربة في بلدٍ فيه هذا الكمّ من التعقيدات السياسية»، لكن الأوساط استغربت «أن يتحوّل البيطار من محقق باحث عن العدالة، إلى مدعى عليه ومتهم باغتصاب سلطة، وأن تعمد جهة قضائية إلى ملاحقته وإطلاق سراح الموقوفين خلافاً للقانون». وقالت: «البيطار رجل يتبع لمؤسسة قضائية عليها أن تتخذ موقفاً حاسماً مما يجري، وأن تضع الأمور في نصابها حتى يستقيم مسار العدالة ويعرف اللبنانيون حقيقة ما حصل في 4 آب ومن سبب نكبتهم».