IMLebanon

بلدة جنوبية تُنشئ “مربّعاً مدنيّاً”

كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:

مع كلّ قصف مدفعي أو صاروخي من الجانب الإسرائيلي، ومع كلّ تسلّل مسلّح أو عمليات مضادّة من الجهة اللبنانية، يطوف السؤال الأوحد والأهم بين أهالي قرى الشريط الحدودي أو من بقي منهم: هل توحّدت الساحات وبدأت الحرب في الجبهة الجنوبية؟ هذا الهمّ الوجودي يقابله بعض الإطمئنان، فهم يرون أن المعارك المتقطّعة والمناوشات الحاصلة منذ اندلاع «طوفان الأقصى»، تُشير إلى عدم انزلاق المنطقة نحو هاوية الدماء والدمار والتهجير. يشاهدون آلة الإجرام والإبادة بحق الفلسطينيين في غزّة. العدوان الإسرائيليّ لا يُميّز بين مقاتلٍ وأعزل. يسحق البشر كما الحجر. من يلجم عبثيّته التدميرية؟ هل سيكون قدرنا كأهل القطاع، لا سيّما أنّ تل أبيب قد صرّحت مراراً في السنوات الأخيرة، أن أي حرب قادمة مع لبنان ستكون أفظع من العام 2006؟

الجنوبي محاصر، بين القصف والنزوح والنازحين والحرب الاقتصادية التي يواجهها منذ 4 سنوات. من رأس الناقورة إلى جبل حرمون (الشيخ)، مصير شعب وبلدٍ معلّق على شريط ملتهب، مُسيّج بحسابات ومصالح دولية وإقليمية. الخوف من عدم حسم الحروب لمرّة واحدة ونهائية يضاهي نيرانها. هواجس كبيرة تواجهها تلك القرى.

في الناقورة، تلك البلدة الساحلية والسياحية بشاطئها الأزرق الجميل وطبيعتها البحرية الخلّابة، ووجود المقرّ العام للقوات الدولية التابعة للأمم المتحدة على أراضيها، يتحدّث رئيس بلديّتها عبّاس عواضة عن التحديات التي يواجهونها، إذ تخطّى النزوح الـ70% من أهلها، وجهتهم الأساسية بيروت، ثمّ صيدا، صور، برجا، جدرا ووادين الزينة وغيرها من المناطق. أمّا الذين لن يتمكّنوا من التأقلم مع كلفة العيش في تلك المناطق، ففضّلوا البقاء في بيوتهم، خصوصاً مع ارتفاع إيجارات السكن في العاصمة وجوارها، التي ازدادت أضعافاً مع بدء قرع طبول الحرب، حتى وصل بعضها إلى ألف دولار أميركي، وفق عواضة.

“الريّس” الشاب، النشيط الموصوف بديناميته، لن “يترك أهله للمجهول”، إذ أنشأ “نطاقاً آمناً داخل البلدة، لا يقطنه سوى المدنيين”، قائلاً: “نعرف كيف ندافع عن أنفسنا بوجه العدوّ الغاشم”، غامزاً من قناة المعنيين، متمنّياً عليهم “احترام هذا المربّع المدنيّ وعدم جرّه إلى الحروب”. في هذا السّياق، توجّه عواضة إلى قوّات “اليونيفيل” داعياً إياها لضرورة المساعدة في حماية المدنيين وتأمين منطقة عازلة لهم خصوصاً أن أرض الناقورة تحتضن قيادتهم منذ وصولهم إلى لبنان قبل سنوات طويلة. ولفت إلى أن المكتب المعنيّ بالتواصل مع البلدية لمعرفة حاجاتنا “لم يفتح خطّه حتّى الآن”.

وما يثير الخوف لدى الناس حسب رئيس البلدية، هو عدم وجود أفق واضح لهذه الأزمة، كيف ستكون النهاية؟ ويقع خطّ الناقورة الاستراتيجي الدولي الذي يربط الحدود الجنوبية الساحلية بمدينة صور، تحت خطر القصف الإسرائيلي لشلّ حركته، مثلما حصل في حرب تمّوز. وأنشأ عواضة خلية أزمة، للتواصل الدائم مع القاطنين داخل البلدة كما مع النازحين للاطمئنان إليهم ولو بكلمة، نظراً للواقع الماديّ المزري الذي تشهده البلديات في لبنان، ولتنظيم الحياة العامة داخل البلدة، بضبط المشتريات ومراقبة الأسعار وعدم تخزين السلع والبضائع داخل المنازل.

أمّا جارتها علما الشعب التي يبلغ عدد المقيمين فيها بشكل دائم حوالى 1000 شخص شتاءً وبين 1500 و2000 صيفاً من أصل 6 آلاف نسمة، فارتفعت نسبة النزوح لتتخطّى الـ90% باتجاه بيروت لا سيّما بعد القصف الذي طالها أمس الأول مستهدفاً الزملاء الصحافيين واستشهاد مصوّر وكالة “رويترز” عصام عبدالله. فلم يعد يوجد في البلدة سوى عدد قليل من الشباب والأهالي. وتجدر الإشارة إلى أن بعض العائلات كان قد عاد إلى البلدة قبل يوم من الاستهداف الدموي الأخير. وكشف رئيس بلديتها جان الغفري أنّه لم يتمّ تسجيل أي نزوح لبناني أو سوري باتجاه البلدة، كونها منطقة حدودية على خطّ النار. أما عن الواقع الأمني، فلفت إلى أنّ عناصر الشرطة البلدية بالتعاون مع الشباب تقوم بحراسة دائمة لمنع حدوث أي سرقات أو تعدّيات، وذلك بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية والجيش اللبناني.

وصعوداً باتجاه قرى قضاء بنت جبيل، تتشابه الأحوال. يسكنها الترقّب والقلق. في رميش، تحوّلت إلى مركز استقطاب للنزوح الداخلي لا سيّما من عيتا الشعب ويارون، رغم القصف الذي طال أطراف البلدة الحدودية وتلالها. في دبل، تشكّلت لجنة من الشباب لحراسة البلدة وتأمين متطلبات الأهالي. اعتمدوا “مخطّط كورونا” أي إقفال المداخل الفرعية للبلدة بالحجارة والسواتر الترابية خوفاً من أي دخول غريب، كما أوصت البلدية وكهنة الرعية بعدم التجوّل ليلاً وتخفيف الزيارات وحركة الدرّاجات النارية.

في يارون، تخطّى الإخلاء 90% من البلدة، لا سيّما “الحارة المسيحية”. في هذا الإطار تنفي مصادر معنية لـ”نداء الوطن” الشائعات المنتشرة في الجوار بأن عناصر حزبية تمنع الأهالي من العودة إلى قريتهم. وأكّدت أن هذا لم يحصل أبداً. أما الوقائع وفق هذه المصادر الموثوقة، فهي أنّ أهالي الحارة بمعظمهم غادروا كغيرهم من إخوانهم، ولم يبقَ فيها سوى 3 سيّدات (شقيقات) وحيدات، رفضن الرحيل في البداية، غير أنه مع تطوّر الأحداث العسكرية، قرّرن الرحيل، وتمّ نقلهنّ إلى أحد الأديرة المجاورة في رميش، وعندما قرّرن مجدّداً العودة إلى منزلهنّ، رفض القيّمون على الدير طلبهنّ نظراً إلى حالتهنّ الصحيّة والنفسيّة، حيث تمّ الإتصال بأحد أقاربهنّ في بيروت، ونقلهنّ إليها حفاظاً على سلامتهنّ وحسن رعايتهنّ. في هذا الإطار، تتمنّى هذه المصادر على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، التأكّد من صحّة المعلومات واستقائها من جهات موثوقة، فبثّ الشائعات وتناقلها عن حسن نية أو لا، يثيران بلبلة بين الناس هم بغنى عنها. فيكفيهم ما يعيشونه من قلق وخوف دائمين.

في عين إبل، نزح أكثر من 70% من أهلها. توجّهوا إلى بيروت، معظمهم لديه أقارب أو بيوت، البعض الآخر استأجر إلى حين وضوح الصورة ومجريات الميدان في الأيام المقبلة. يأسف رئيس بلديتها عماد اللّوس أن “ننجرّ مجدّداً إلى حروب نحن بغنى عنها ولا طائل لنا في تحديد مساراتها وخياراتها”، مؤكّداً الوقوف إلى جانب الدولة اللبنانية وخلف الجيش اللبناني والقوى الأمنية والبقاء على تواصل دائم معها. شباب البلدة يقومون بالواجب، يحرسون شوارعها ومنازلها ليل نهار، خوفاً من السرقات، مستفيدين وفق اللّوس من “كرم” الدولة في تقليص التقنين الكهربائي حيث ارتفع من أربع ساعات يومية إلى ثمانٍ.

أما في منطقة حاصبيا، حيث شهدت مناطق شبعا وكفرشوبا قصفاً مدفعيّاً وصاروخيّاً في الأيام الأولى لعملية “طوفان الأقصى”، وسقوط حوالى 16 قذيفة إسرائيلية إنشطارية في وسط سهل بلدة الماري – المجيديّة، واقتصرت الأضرار على الماديات وفي الممتلكات والأرزاق وأماكن آبار المياه. تحدّث رئيس بلديتها يوسف فيّاض عن خشيته من تدهور الأوضاع، لافتاً إلى أنّ البلدة حتى السبت لم يتركها أحد، فلم تشهد كباقي قرى حاصبيا نزوحاً كغيرها من مناطق مرجعيون وبنت جبيل.

إلّا أنّ القصف العنيف على خراج مزرعة حلتا خراج بلدة كفرشوبا، مسجّلاً سقوط قذائف بالقرب من المنازل في مزرعة حلتا، واستشهاد خليل أسعد علي هاشم وزوجته زباد عاكوم، أدّى إلى نزوح أهاليها باتجاه الماري وقطنت العائلات في ناديها. وأشار فيّاض إلى أن البلدة لم تواجه أي مشكلة مع النزوح السوري، خصوصاً أن تنظيم وجوده واليد العاملة يعود إلى سنوات، كون بلدة الماري وجوارها تعد منطقة زراعية مهمّة وتحتاج إلى وجود العمالة السورية. وأكد أن “البلدية وعناصر شرطتها وبالتنسيق مع الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية يقومون بما يلزم لحفظ أمن البلدة، التي تشهد حركة شبه طبيعية في داخلها، ومع بدء موسم قطاف الزيتون”.