IMLebanon

صلوات أهالٍ رفضوا المغادرة: كل ما نملكه هنا

كتبت نوال نصر في “نداء الوطن”:

حزين تشرين، أخبار موت تتوالى، ونزوح عصافير، وهدير حرب يدوّي، وطوفان في الأقصى، وأمطار طوفانية تهزّ أساسات مبانٍ فتهوي بمن فيها علينا. البارحة هوى مبنى يزبك في المنصورية. إنها أوّل مرّة من زمان بعيد تكون فيها طريق المكلس- المنصورية مزدحمة هكذا. هذا هو لبنان الذي يغرق في شبر مياه فكيف إذا كان منسوب الأمطار فوق العادة؟

لحقنا أصوات سيارات الإسعاف التي صدحت في الأرجاء فبلغنا الموقعة بدون سؤال. ضجيج. ضجيجٌ هائل يصمّ الآذان. عناصر بلدية المنصورية – الديشونية يمنعون السيارات من الإقتراب أكثر. المبنى المنهار يقع في أسفل الطريق، حيث تتلاصق المباني، متّكئ بعضها على بعضها الآخر، مشكّلةً معاً مشروع يزبك. زحمة بشر هنا. من لديه عمل، ومن ليس لديه شيء إلا الحشرية، ومن يعرف أشخاصاً كانوا يسكنون هنا وأتى ليطمئن. أمّا الأهالي، اهالي المباني المتلاصقة، فأُخرجوا من بيوتهم على عجل. مبنى يتكئ على مبنى. ومبنى أطبق على الطبقات السفلية. وبكاء وعويل وصلوات: يا عذراء… يا مارشربل… يا يسوع…

وصل رجل مسنّ، وراح ينادي بصوتٍ عالٍ: يا مرا وينك؟ كان يبحث عن زوجته. فتاة مذهولة كانت تصرخ: بدي إمي بدي إمي… بيار، شقيق العروس شيرين وابن ميراي كان يبحث عنهما في العيون. أبى الإبتعاد من مكانه قائلاً: «كل شي بملكو بهالدني هون». شباب وصبايا الدفاع المدني. شباب وصبايا الصليب الأحمر اللبناني، والإسعاف، والجيش، وقوى الأمن الداخلي، وعناصر من جمعية مساندة… راحوا يطلبون من الناس المغادرة وأحد العناصر أخبر الجموع: «الخطر ما زال ماثلاً. أتى خبير وأكد أن المبنى الملاصق معرّض هو أيضا للسقوط. غادروا أرجوكم». صوت البكاء والنحيب كان أقوى من صوت العقل. أحد الشباب أشعل سيكارة فأسرع عنصر أمني في نزعها من يده قائلا «هناك عشرات القوارير تسرّب غازها الآن في الهواء».

يا الله كيف تتبدل الحياة وتنقلب في لحظة. إمرأة راحت تُخبر كل من تشاهد: كنت هونيك… هون بيتي (تشير إلى آخر طبقة من المبنى المطبق على الطبقات السفلية). سمعت صوت فرقعة. خرجت. أغلقت الباب. وحصل ما حصل. جارتي كانت تركض. لم أرها بعد السقوط. دخيلكم وين بدنا ننام الليلة؟ مين بدو يتحملنا؟ صرنا مشردين… يا الله». تحاول إمرأة التخفيف من مخاوفها قائلة: «أنت حيّة فاشكري ربك». تنظر إليها. تنظر إلى بيتها. تنظر إلى العيون اللاهثة وراء خبرٍ عن مفقودين كانوا هنا فتشكر ربها ألف مرّة.

رجلٌ يبحث عن أنغام «ركنت سيارتها ونزلت منها ولم يرها بعد ذلك أحد. طلبتها مرات. خطها calling. شو قولكم؟». يتركنا ويجول بحثاً عنها: «أنغام… أنغام…».

حضر نواب. أتى وزير الداخلية. جاءت البلدية. وصل رئيس الهيئة العليا للإغاثة اللواء محمد خير. أتوا وغادروا، ربما إلى مكانٍ آخر، يشهد كارثة أخرى. من يدري؟ وصلت شابة مع والدتها وراحتا تصرخان: رينيه رينيه… إنها خالتها كانت تسكن في الطبقة الرابعة.

دنت الساعة السادسة. تسللت العتمة. أجهزة الإستشعار تنبئ بوجود أحياء. الجيش أدخل أوكسيجين إلى عالقين تحت الركام (خبر ينتقل بسرعة). قولوا الله. رجل يطلب من مجموعة نساء ملتاعات. أحدهم إقترب من رجل يبكي كما الطفل وسأله: ألم تشعروا قبل بأصواتٍ تنذر بأن المبنى مهدد؟ ألم تنذركم البلدية كما قالت بالإخلاء؟ أجابه بصوت متهدج: يا زلمي ليش في بلدية؟ ليش خلّوا معنا مصاري لتصليح الأضرار؟ يا زلمي حلّ عني…

الجيران باتوا البارحة معاً، حتى من كانوا يتشاجرون على موقف سيارات وعلى سرقة مياه وعلى قشور. الشدّة تجمع. سكان تجمع مباني يزبك إتكأوا البارحة على بعضهم من دون أن يجب أحد عن السؤال: كيف لمبنى أن يهوي مثل ورقة؟ وماذا عن عشرات المباني المهددة في دولة لا رأس فيها ولا بلديات فاعلة؟ نعرف من يدفع الثمن دائماً لكن من يفترض أن يُحاسب؟ سؤالٌ لن يجد جواباً. علّها الصلوات تعيد أحباباً أمضوا أمسهم تحت الركام. هذا يكفي الآن وللبحث تتمة.