IMLebanon

إشتداد الحرب كمدخل للتسوية الكبرى

كتب جوني منيّر في “الجمهورية”:

بدأت العواصم الغربية تتعمّد إظهار تَمايزها عن النظرة الاسرائيلية لمسار حرب غزة والنتائج المرسومة لها. صحيح أنّ مزاج الشارع بدأ يشهد انتقالاً من التأييد الأعمى والمطلق لإسرائيل الى التأييد المشروط، لكن ثمة أهدافاً كبرى تؤسس لخريطة جديدة للشرق الأوسط على أنقاض غزة بدأ البحث فيها وقد لا تتوافق في بعض بنودها مع نظرة اليمين الاسرائيلي.

وفي الوقت الذي تنشغل باريس بملاحقة من تتهمهم بمعاداة السامية بعد ظهور نجمة داوود على جدران بعض المنازل، تنشط الحركة الديبلوماسية السرية بين واشنطن وباريس ولندن وبرلين لتنسيق الخطوات والضغوط الديبلوماسية المطلوبة.

والهَمس الديبلوماسي يشير الى توقيت اساسي لا بد من إمراره ويتعلق بالانتخابات الرئاسية المصرية قبل الانتقال بعدها بقوة أكبر لتثبيت التسوية الاقليمية الكبرى الجاري صَوغها بعناية. وهذه التسوية ستشمل على المستوى العربي بنحو أساسي مصر والسعودية وقطر إضافة الى ايران التي تتولى الدوحة التواصل معها. وهذا ما يفسّر الزيارتين المتتاليتين اللتين قام بهما حتى الآن وزير الخارجية الايراني للدوحة.

وبذلك، ستشكّل القمة الطارئة لجامعة الدول العربية، والتي ستتولى السعودية الدعوة اليها في الرياض كونها تتولى رئاسة الدورة الـ32 الحالية، المدخل العربي الأساسي لا بل الوحيد لإطلاق الحل الفلسطيني والذي يرتكز على «حل الدولتين» كشرط لا عودة عنه اياً تكن الظروف والمعطيات. وهذا ما يتوافق مع النظرتين الأميركية والأوروبية وهو ما يفسر أيضا الحملة التي بدأت حول الجرائم الاسرائيلية بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية والتي تخفي نيات تهجيرية بذريعة «استئصال» حركة «حماس». وهو ما يعطي الانطباع بأنّ الحرب في غزة مستمرة حتى بداية الشهر المقبل على أقل تقدير.

وهو ما يعني أن حمّام الدم في غزة سيستمر بقوة خلال الأسابيع القليلة المقبلة، وللدلالة على الوحشية المنتظرة سحب البنتاغون ضابطاً رفيع المستوى كان قد تم انتدابه الى غرفة العمليات العسكرية الاسرائيلية الى جانب ضباط آخرين. لكن الضابط الذي سُحِب كان يشغل سابقاً موقع رئيس قيادة العمليات الخاصة للقوات البحرية خلال حرب غزو العراق، ويتمتع بخبرة كبيرة في ادارة حرب المدن العراقية كونه تولى معارك كثيرة أهمها الفلوجة والموصل. وهذا الجنرال كان يؤيد استخدام الضربات الجوية المحددة كبديل من الانخراط في قتال بري مفتوح.

وأُشيع أن سبب سحبه هو عدم تأييد واشنطن للغزو البري لغزة وهو ما كرّره المسؤولون الاميركيون الكبار ولو بطرق مختلفة. وأعقبت خطوة السحب توضيحات غير رسمية للبنتاغون بأنّ القيادة العسكرية الاميركية لا تتخذ القرارات أو توجّه العمليات بل تقوم بتوجيه النصح فقط. وهو ما يمكن أن يحمل تفسيرات مختلفة منها أن حمام الدم سيستمر وربما بوتيرة أعلى. فصحيح أن التدمير المجنون الحاصل يساعد الدبابات والآليات على التحرك والتقدم لكن المشكلة الاساس تبقى في الأنفاق تحت الارض. وتدرك اسرائيل أن «حماس» بَنَت مساحات واسعة من الانفاق، وهي متنوعة. مثلاً هنالك الانفاق البرية المعروفة والتي بنيت لأهداف برية. وهنالك أنفاق بحرية تستعمل لأغراض التسلل البحري. وهنالك أنفاق «انتحارية» جرى بناؤها وتسريب تفاصيلها للاسرائيليين بهدف استدراجهم اليها وتفجيرها على رؤوس المجموعة التي ستدخل اليها.

وفي الحسابات المعقّدة أن حركتي «حماس» و»الجهاد الاسلامي»، والتي كانت تشير التقديرات الاستخباراتية الى أنهما تملكان مجتمعتين نحو 20 ألف صاروخ، ما يزال لديهما ما بين 12 الى 14 ألف صاروخ رغم إطلاق وتدمير كثير منها. أضف الى ذلك التجهيزات والخبرات التي كان قد منحها «حزب الله» لهما لجهة تجهيز قواعد الصواريخ في باطن الأرض، واخراجها لاطلاق الصواريخ عبر سكك حديد لضمان سلامة العناصر.

وفي الوقت نفسه إنّ القواعد العسكرية الاميركية في سوريا والعراق استمرت عرضة للهجمات الجوية ولو أنها بقيت على مستوى مخفوض من الخطورة. ولكن حفاظا على عدم تخطي الخطوط الحمر وجّهت واشنطن رسائل مختلفة. ذلك أن السنة هي انتخابية لا بل انّ النزاع الانتخابي حامي الوطيس.

وفي آخر استطلاعات الرأي الأميركية فإنّ 52% من الأميركيين يوافقون أسلوب بايدن في التعاطي مع الحرب في غزة في مقابل 48% لا يوافقونه. لكن هذه النسبة التي ما تزال لمصلحته اصبحت هشّة وسريعة العطب ما يعني أنها لا تتحمل الأخطاء. وفي نتائج الاستطلاع نفسه، فإنّ 42% من الأميركيين يُحمّلون «حماس» مسؤولية الحرب و13% يحمّلونها لإيران و9% فقط للحكومة الاسرائيلية.

كذلك فإنّ 49% يتعاطفون مع اسرائيل و10% مع الفلسطينيين و26 % يحمّلون المسؤولية للطرفين على قدم المساواة و15% غير متأكدين.

لكن حسابات نتنياهو تبدو أخطر كونها لا تقيم وزناً سوى لإنقاذ رقبته. فهو يدرك أنه سيخرج من الحياة السياسية من أسوأ الابواب، وأن بابا وحيدا سيكون مفتوحا أمامه وهو باب السجن.

لذلك، يتعاطى مع الحرب القائمة في غزة على اساس مقولة شمشوم الشهيرة: «عليّ وعلى أعدائي يا رب»، وهنا باب الخطورة. وهو لذلك سعى لإشراك خصمه اللدود بني غانتس في إطلالاته الاعلامية اضافة الى وزير الدفاع، وراح بعيدا في توصيف ما يحصل بأنه «حرب الاستقلال الثانية» بعدما وصفها بـ»الحرب الوجودية». وهو أراد أن يقول بطريقة أخرى انه في هذه الحالة كل شيء مُباح. وطبقاً لذلك يريد «اقتلاع» الفلسطينيين وإزالة اسم فلسطين من الوجود تحت ذريعة ضرب «حماس»، فيما واشنطن والعواصم الأوروبية والعربية تريد إخراج ايران من الساحة الفلسطينية من خلال تسليم السلطة الفلسطينية والقضاء على الوجه الايراني لـ»حماس».

ومن هنا، يمكن استنتاج المشهد والتوقيت الملائم لإنتاج الحلول من خلال القمة الاستثنائية العربية، والادوار العربية المستقبلية على الساحة الفلسطينية ما بين السعودية وقطر ومصر.

لكن الواقعية تقضي بالاقرار بالتفاهم مع ايران مسبقاً لإنجاز المشهد المطلوب. ذلك، أن أضرارا بالغة ستلحق بالاستراتيجية الايرانية في الشرق الاوسط والتي عملت على ترسيخها طوال العقود الأربعة الماضية. الواضح أن توقيت عملية «طوفان الأقصى» واسلوب التنفيذ أصاب ميزان القوى الذي بَنته ايران قبل أن تصيب غيره. تكفي الاشارة الى عودة الجيش الاميركي الى المنطقة بعدما كانت واشنطن قد قررت في العام 2014 الانسحاب تدريجياً من الشرق الاوسط، وهي الفراغات التي عملت طهران على ملئها وتعزيز وزنها وحضورها. ومن الطبيعي أن تؤدي العودة الاميركية الى حسابات ومعطيات مختلفة ستستفيد منها السعودية هذه المرة كونها صاحبة القدرات المالية الهائلة التي يحتاجها الجميع.

ومن هنا يَدورُ الهمس حول الدور القطري المحوري مع ايران، وكذلك دورها الحاضن لـ»حماس» ما سيسمح لها مستقبلاً باحتضان «حماس» وحدها من دون سواها. وهذه الصورة تعني أن لبنان سيبقى خارج أتون الحرب ولو أن مناوشات الجنوب ستبقى قائمة لاسباب متعددة ومفهومة.

وإطلالة الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله غدا ستحظى باهتمام بالغ لمتابعة وتحليل وتمحيص لدى الدوائر الغربية المعنية. ويعتقد هؤلاء أنّ لِتروّي نصرالله في الظهور اسبابه الوجيهة. ومن المفهوم بالنسبة الى هؤلاء أن يعتمد خطابا ناريا عالي السقف. ولكن الاوساط نفسها لا ترى انخراطا في الحرب المفتوحة. وهي تعتقد ان خطابه سيُحاكي جمهوره بالدرجة الاولى وايضا وخصوصا الشارع الفلسطيني وحركة «حماس» التي أظهرت اشارات امتعاض مختلفة ولعبت على وتر «وحدة الساحات»

لكنّ المنطقة دخلت في مرحلة جديدة تتعلق بترتيب الصورة المقبلة. وهو ما يعني أن المخاطر ستبقى حاضرة على مستوى الساحة اللبنانية ما يَستوجب الحد من الثغرات الموجودة لا البحث عن مخاطر اضافية. ويأتي في طليعة ذلك تأمين الحماية السياسية للجيش اللبناني لا العبث كالمراهقين بحثاً عن مصالح شخصية وضيّقة ومعيبة. وتقول أوساط ديبلوماسية غربية موجودة في العاصمة الفرنسية انّ «حزب الله» يدرك اهمية ذلك، وانه أثبتَ أنه يَعي دقة الوضع وخطورته بينما هنالك من يقارب الوضع من باب المصالح الذاتية فقط وبأسلوب المراهقين. وهذا الاسلوب عينه أنتجَ كوارث متلاحقة في المراحل الماضية. وتُبدي هذه الاوساط اعتقادها بأنّ التسوية الكبرى على مستوى المنطقة والجاري تحضيرها قد تشمل لبنان بأحد بنودها ولا سيما منها الاستحقاق الرئاسي، ما يستوجب على اصحاب الغايات الخاصة أن يعملوا على تهدئة روعهم والتصرّف بمسؤولية ومن أجل المصلحة العامة خصوصاً أنّ الظروف محفوفة بالمخاطر الكبيرة.