IMLebanon

إصرارٌ على سنة غير خبيثة

كتب الدكتور جورج شبلي:

بعدَ أن تأكّدتُ من خلالِ المعجمِ السياسيّ لأكثرِ المتعاطين بالشأنِ الوطنيّ، من أنّ مقاربتَهم للهويةِ اللبنانيةِ هي غيرُ واضحة، بل مبهمة، وبالتالي، ليسوا لبنانيّي القلب، والطّابع، ولا يعتبرون الوطنَ مصدرَ نورٍ وجَمالٍ وسلام، وأرضَ طيبةٍ وطمأنينةٍ وعافية، ما يعني أنّ تعلّقَهم بأرضِ لبنانَ هو واهٍ ومَيت، آليتُ على نفسي، مع إطلالة سنةٍ جديدة، أن أقاربَ الأسبابَ الأساسيّةَ التي يتذرّعُ بها هؤلاء، وأقدّمَ للسنةِ القادمةِ، ما أعتبرُهُ مطلَباً هو، في جوهرِه، دعوةٌ لفَهمِ قضيّةٍ أتعاطفُ معها، بشدّة، وأُحفِّزُ هذه السنةَ الآتيةَ من لَدُنِ الزّمن، على تَبَنّيها، برزانةٍ، علَّ ذلك يزيلُ العُبوسَ عن مُحَيّا وطني، والإحباطَ من قلوبِ أهلِه.

لستُ أُنكرُ، أبداً، أنّ لبنانَ الدّيموغرافي، تتساكنُ فيهِ شرائحُ متعدّدةُ التوجّه، بل متناقضةُ الهوى، بعضُها محكومٌ بنظامِ المِلَل، من هنا، فالتّعايشُ بينها قَسريّ، ومتوغِّلٌ في تراكماتِ التعصّب، أوالفوقيّةِ العدديّة، أوالإستقواء، وقد صبَّت العواملُ السياسيّةُ والأمنيّةُ المتعاقبةُ زيتَ العدائيّةِ على تعاطي هذه الشّرائحِ في ما بينها، حتى تراجعَ مؤشِّرُ الإندماجِ، وتفاقمَتِ التناقضات، وتعدّدت مصادرُ التوتّر.

ولستُ أُنكرُ، أبداً، أنّ الرجعيّةَ الأُصوليّةَ البعيدةَ عن مبادئِ الحضارةِ والرقيّ، قد تسرّبَت، بشدّة، الى عمقِ المجتمعِ اللبنانيّ، وأمسكَت بخناقِ التقدّمِ بالإنفتاح، ما أعادَ عقاربَ الزمنِ الى عصورِ الإنحطاط. وأسوأُ تداعياتِ هذه الرجعيّة كان في ترسيخِ ثقافةِ الموت، في حين التزمَ اللبنانيّون بِما قالَه ” الرّيحاني ” من أنّ أيَّ شيءٍ في الحياةِ هو خيرٌ من التّراب. وقد عملَ بعضُ ممتَهِني السياسةِ، عندَنا، عن خوفٍ أو عن تَزَلُّف، على تَمويهِ هذه الحالِ الشَّنيعة، لكنّهم لم يستطيعوا إقناعَ النّاسِ بأنّ شقاءَهم، وبلاءَ وطنِهم، هما من نتائجِها.

ولستُ أنكرُ، ابداً، أنّ المستقوينَ بالخارج، تصرّفوا وكأنّهم يمتلكون البلادَ، فعملوا على انهيارِ منظومةِ الدولة، وانتهكوا الحريّات، ووضعوا اليَدِ على قرارِ الوطن… من هنا، لمسَ الناسُ، وبشكلٍ أكيد، انتفاءَ المشاركة، وزَيَفَ إعلانِ الوقوفِ الى جانبِ الديمقراطيةِ، والرّكونَ الى ديكتاتوريةٍ ذاتِ استراتيجيةٍ سافرة، قوامُها انتدابُ البلاد، وتحويلُها ذراعاً عسكريّةً لمرجعٍ إقليميّ، ما يزجُّ بالبلادِ في أتونِ جهنّم. وهذا يعني، تماماً، أنّ المستَقوين قد غابَ عن وجدانِهم حالُ الإنتماءِ والولاء، وهي حالٌ دافعَ عنها المؤمنون بالكيانِ وبالهويّة، بِما أُوتوا من عنفوانٍ ودَم، مُعتبرين أنّ الولاءَ للوطنِ هو أقدسُ السّلوك، وأنّ الإنقلابَ عليه خيانةٌ، بل جريمة.

لستُ أُنكِرُ، أبداً، أنْ ليسَ هنالك من تقاطعٍ بين أسلوبَي التّعاطي مع مفهومِ الوطنيّة، ونهائيّةِ الكيان، وقُدسيةِ الهوية، ما أدّى، ولمّا يزل، الى إشكاليّةٍ إستراتيجية جديّةٍ تلاشى أُفقُ حلِّها، ما نَمّى مشاعرَ الشكِّ، والتشنّجِ، عندَ مواطنين يرفضون الإِجبارَ، والإنصياعَ، والفَرضَ، وسَفكَ كرامةِ الوطن، ولا يقبلون باستباحةِ البلادِ بعشائريّةٍ جائرة، مرفوضة، وباستعمارٍ هجين. والحقيقةُ أَنّ التّمادي في الرفضِ الذّميمِ للبنانَ النّموذجِ الفريدِ، والرياديِّ، وإبنِ الحريّةِ، ليسَ سوى مشروعٍ عدائيٍّ مُدمِّر، ويؤدّي، حتماً، الى انقسامٍ أفقيٍّ وعموديّ، يمكنُ أن يوصلَ، في أيِّ وقت، الى مواجهةٍ داميةٍ تقضي على الوطنِ الذي نعرفُهُ، وما وردَ في قَولِ أحدِ المتزمِّتين من ” أنّ فئةً من اللبنانيّين ليسوا وطنيّين بل عملاء اتّخذوا مواقفَ معاديةً للعربِ ولديانةِ العرب، وينبغي التخلّصُ منهم، إنْ رفضوا الخضوع… “، لَهو دليلٌ كافٍ على نظرةِ المتطرِّفين الى لبنانَ الشّركة !!!

أيّتها السنةُ العابرةُ من سماواتِ الزّمنِ الى الآتي المحسوس، أنا أُدركُ، تماماً، أنّ الزّمانَ يستطيعُ أن يُنهكَ أهلَ وطني، فالوقتُ عدوُّهم، وعقاربُهُ تصيبُهم بالخيبة، وتفرضُ عليهم واقعاً مأسويّاً لا يستطيعون تلطيفَ تداعياتِه البَشِعة، لذلك، نرجوكِ ألّا تسمحي بأن يتكرّرَ في عمرِكِ، ما عانينا منه، قبلَكِ، من خوفٍ على المصير، ومن محاولاتٍ للإطباقِ على ما تبقّى من مساحةِ الحريّة، والطمأنينة، وأحلامِ الأجيال، ونحنُ نعدُكِ بأنّ المؤونةَ الكيانيّةَ، وبالرَّغمِ من أنّها باتَت شحيحةً عندَ ضِعافِ النّفوسِ، والعنفوان، ستبقى الحالةَ التي يَتمَحورُ حولَها نضالُنا لنصونَ القضيّة، مُعلِنين أنّ المَساسَ بلبنانَ خطيئةٌ أصليّةٌ لا يُمكنُ أن تُغتَفَرَ إلّا  بمعموديّةِ النّارِ والدَّم .