IMLebanon

“حرب شوارع” من نوع آخر في لبنان

كتبت زيزي اسطفان في “الراي الكويتية”:

لم يكن ينقص لبنان، الذي تفترسه الأزمات من كل حدب وصوب، وتُصَوَّب عليه مدافع حربٍ محتملة، إلا الوقوف وجهاً لوجه مع معضلة اسمها «الكلاب الشاردة» التي تحتاج حلاً يحمي الناس من الموت بـ «العَضّة» ويَحفظ الكلاب من أعمال انتقامية لا تتفق مع إنسانية الإنسان.

وبدأت ظاهرة الكلاب الشاردة بـ«التضخم» بعد الحرب في سورية وهجْرتها إلى أمكنة أكثر أماناً، ومن ثم كبرت عقب الأعمال الحربية في جنوب لبنان، وحققت انتشاراً واسعاً مع تمدد «المزابل» التي شكلت لها أرضاً خصبة نتيجة أزمات النفايات المتمادية في لبنان.

نحو 70 ألف كلب شارد على مساحة الـ 10452 كيلومتراً مربعاً، هي مساحة لبنان الذي شهد أخيراً اعتداءات لكلاب شاردة ذهب ضحيتها طفل من مخيم الراشيدية للاجئين الفلسطينيين وجُرح طفل آخر، في الوقت الذي تستمرّ السلطات المختصة في مناقشة أفكار للحد من هذه الظاهرة الخطرة ومقاومتها، خصوصاً في ظل «ندرة» اللقاحات والأدوية.

عوامل كثيرة تراكمتْ في لبنان وأدت الى زيادة في عدد الكلاب الشاردة في الطرق وفق ما تقول لـ «الراي» السيدة ثريا معوض، مؤسِّسة ورئيسة جمعية AFAP أو «كرامة الحيوان وحريته»، التي تتابع على الأرض قضية الحيوانات الشاردة وتعمل مع غيرها من الجمعيات على إيجاد حلول إنسانية لها.

وتقول معوض: «جائحة كورونا وبعدها الأزمة الاقتصادية وغلاء كلفة تأمين معيشة الكلاب في البيت وارتفاع كلفة اللقاحات والعلاجات البيطرية، كلها عناصر أدت الى التخلص من الكثير من الكلاب في البيوت ورميها في الشارع ما أدى الى تكاثرها بأعداد كبيرة. وساهم تَراكُم النفايات في الشوارع في جذْب أعداد من الكلاب الى محيطها للبحث عن طعام ما أَوْجَدَ تجمعاتٍ للكلاب في الأماكن التي تكثر فيها النفايات».

يصعب بالطبع إحصاء أعداد الكلاب في الشوارع وإن كان الحديث يتم عن 70000 كلب شارد، لكن في حسبة بسيطة تقول معوض: «أحصتْ إحدى البلدات في نطاقها نحو مئتي كلب ويمكن الانطلاق من هذا الرقم لتقدير العدد الهائل من الكلاب الشاردة. وجاءت الحرب في الجنوب لتساهم بدورها في ترك الحيوانات في الشوارع بعدما تَرَكَ الأهالي بيوتهم».

لبنان كان قد أقرّ منذ العام 2016 خطة وطنية للتعامل مع الكلاب الشاردة على غرار الدول المتقدّمة التي أوجدت حلولاً لهذا الموضوع وبينها تركيا. كما أصدر في سبتمبر 2017 قانون حماية الحيوانات والرفق بها، لكن تَراكُمَ الظروف المأسوية التي يمرّ بها لبنان جعل الاهتمام بالحيوانات في آخِر سلّم الأولويات رغم ان الخطة لحظت دوراً للبلديات في التعامل مع الكلاب الشاردة وإيجاد مآو لها. إلا أنه مع تردّي الوضع المالي للبلديات من جهة وعدم وجود نية حقيقية للتعامل بطريقة حضارية رحيمة مع الحيوانات من جهة أخرى، صار يتم السعي للتخلص منها بطرق عنيفة.

وإثر حادثة مقتل الطفل هيثم حمزة بعد مهاجمة كلبٍ له تحرّكت وزارة الزراعة بسرعةٍ وعقدت اجتماعاً طارئاً حَضَرَهُ معنيون من جهات مختلفة صحية وبيئية وزراعية وأخرى تعنى بالصحة المجتمعية وبصحة الإنسان والحيوان، كما شارك فيه رؤساء بلديات وناشطون في مجال حقوق الحيوان وذلك للتداول بالعقبات التي تقف دون تطبيق الخطة الوطنية للتعامل مع الكلاب الشاردة. وتَقَرَّرَ استحداثُ لجنة وطنية من أجل إقرار خطة شاملة للحل على كامل الأراضي اللبنانية.

لكن الحلّ لا يحتاج الى الكثير من الخطط كما تقول معوض «فهو يقوم على اتباع طريقة TNR أي تحديد أمكنة الكلاب الشاردة، ومن ثم القبض عليها بطريقة علمية إنسانية لا تتسبب لها بالأذى، وبعدها العمل على تلقيحها وخصيها بالنسبة للذكور أو تعقيمها بالنسبة لللإناث، ومن ثم معاودة إطلاقها بحيث لا تعود تشكل خطراً على الناس ولا تتكاثر في الشوارع».

وتضيف: «بالنسبة لي، لستُ من أنصار معاودة إطلاقها في الشوارع بل إيجاد مآو لها تؤمّنها البلديات ليصار بعدها إما الى إرسالها الى بيوت أو إلى مزارع في مناطق البقاع والشمال لتساعد المزارعين او لتكون كلاب حراسة في المزارع وغيرها. وقد عملتْ جمعيتنا على إنقاذ مئات الكلاب بهذه الطريقة. وكنا نلجأ الى فِرَقٍ مختصة لإنقاذ الكلاب تقوم على وضع حبوب مهدئة لها أو تنويمها عن طريق بنادق خاصة لنتمكن من القبض عليها، وبعدها كنا نعمل على إجراء عمليات الخصي او التعقيم وإعطاء اللقاحات ومن ثم تأمين أماكن لها أو إبقائها في المآوي الخاصة».

وتتابع: «لا بد أن نذكر أن ثمة كلاباً شرسة جداً لا يمكن التعامل معها، وهنا يكون الموت الرحيم أفضل حل لها. ولولا مجموعات الإنقاذ هذه التي تتعاون مع الجمعيات لكانت شوارعنا ومدننا قد امتلأت بالكلاب الشاردة. وبهذه الطريقة استطعنا تأمين العلاجات لعدد كبير جداً من الكلاب. لكن المآوي صارت ممتلئة ويبقى التمويل عقبةً أساسية أمام العلاجات». ولكن معوض تؤكد أنه «بالتعاون بين جهات مانحة من الخارج وبين الجمعيات والبلديات والأطباء البيطريين ووزارة الزراعة يمكن تأمين ملاجئ كافية للكلاب الشاردة وتخصيص علاجات لها للحد من هذه المشكلة».

بعض البلديات تجاوبت مع حملات الجمعيات وأبدت استعدادَها لتأمين مآو للكلاب للتخلص من أعدادها الكبيرة في البلدات ومنْع أذاها عن الناس. ومثال على ذلك بلدية حلبا في عكار (الشمال) التي أبدى رئيسها استعدادَه لتأمين ملاجئ، وكذلك بلدية دير القمر اتحاد بلديات الشويجاني في الشوف. وقد أنشأوا ملاجئ للكلاب ويقومون بتأمين الطعام واللقاحات لها، وتقول معوض: «لكن لا بد من التأكيد أن ليس في إمكان بلديات كثيرة تأمين التمويل لمشاريع كهذه إذ إنها عاجزة أحياناً عن تأمين الخدمات الأساسية في البلدات».

وجهة نظر المدافعين عن الحيوانات باتت معروفة وصوتهم مسموع وعال جداً، حتى أن بعض الوزارات أو البلديات باتت تخشى اتخاذ إجراءات جذرية للقضاء على الكلاب الشاردة خوفاً من ردات فعل الجمعيات المنادية بحقوق الحيوان.

لكن في المقابل البعض يرفع الصوت عالياً ليشير إلى أن الإنسان هو الأولوية، وحين تهدد هذه الكلاب حياة الإنسان وأطفاله يصبح التعامل معها وتخفيف خطرها واجباً وطنياً.

في هذا الإطار يقول الطبيب البيطري والناشط بفاعلية في مجال حماية الحيوان على أرض الواقع وعبر مواقع التواصل الاجتماعي د. أدهم خطار إنه يجب عدم التعاطي مع الموضوع بحساسية وعاطفية مفرطة «فمحبو الحيوانات والمدافعون عنها يفضّلونها أحياناً على البشر ويجهلون حقيقة المخاطر التي يمكن أن تنجم عن ترْكها في الطرق، في حين أن الأولوية يجب أن تكون دائماً للإنسان».

ويلفت الطبيب البيطري إلى «ان داء الكلَب قد دخل الى لبنان منذ العام 2017 وإن بحالات قليلة، ويجب بذل كل الجهود للقضاء عليه»، مؤكداً «أن مشكلة لبنان مع الكلاب الشاردة تفاقمت مع نشوب الحرب السورية حيث ان الوزارات المختصة في سورية كانت في السابق تعمد الى تحصين الحيوانات البرية ومن ضمنها الكلاب والذئاب والضباع وغيرها في الغابات والأحراج عن طريق نشر اللقاحات فيها. ومع نشوب الحرب لم تعد تلك أولوية فأصبحت حيوانات سورية غير محصنة وانتقل الأمر الى لبنان».

ويضيف أن «الكلَب مرَض خطير ومميت وتحتاج أعراضُه إلى فترة حضانة تمتد أقله عشرة أيام حتى تظهر بعد التعرض لعضّة كلبـ وقد يمتد الأمر الى ستة أشهر لتظهر الأعراض وتؤدي الى الموت. والعلاج عبارة عن سيروم يجب إعطاؤه وفق بروتوكول معيّن لمَن تعرّض لعضة كلب، كما ينبغي إجراء الفحوص على هذا الأخير حتى ولو تم قتْله. ويتعيّن أيضاً التخلص من كل الكلاب الشاردة في المنطقة ذاتها التي حصلت فيها عضّة الكلب منعاً لانتشار داء الكلَب. ووزارة الصحة هي المسؤولة عن تأمين السيروم الخاص ضدّ داء الكلَب، ولكن للأسف قد لا يكون متوافراً في مرات كثيرة، حتى أننا أحياناً كنا نضطر للحصول عليه من دولة الأردن».

ويشير الطبيب البيطري إلى أن وزارة الصحة تؤكد من جهتها «أن السيروم موجود ومن واجبات الوزارة تأمينه ولكن حتى اليوم لا حالات كلَب في لبنان، فقد تمّت معالجة كل الحالات السابقة».

ولكن كيف يمكن للناس و الأطفال حماية أنفسهم من عضات الكلاب ومخاطرها؟

عن هذا السؤال يجيب د. أدهم خطار: «بصراحة أن الخطر يأتي من مصدريْن: أولاً من الكلاب الخائفة أو الجائعة التي يمكن أن تتحوّل الى شرسة للدفاع عن نفسها أو عن صغارها أو لتأمين طعامها. وثانياً من عدم وعي الناس إلى خطر الكلاب وتصرّفهم معها بطريقة خاطئة. فمحبو الكلاب وأعضاء جمعيات الدفاع عن الحيونات يتقرّبون من الكلاب الشاردة ويداعبونها من دون أن يتأكدوا إذا كانت مصدر خطر أم لا، وقد يتعرضون نتيجة ذلك للعضّ ويصابون بجروح. كذلك قد يحاول بعض الأشخاص اذية الكلب والتعامل معه أو مع صغاره بعنف وأذى، فيهاجم بدوره خوفاً ودفاعاً عن نفسه. لذا ينبغي دائماً التعامل مع الكلاب الشاردة بحذر شديد. ولكن يبقى الحل الجذري إيجاد طريقة للحد من خطرها أو التخلص منها».

كلام الطبيب البيطري قد لا يعجب كثيراً جمعيات حماية الكلاب والحيوانات، لكنه ينطلق من واقع عمله على الأرض و تجربته الطويلة في حماية الحيوانات.

ويقول د. خطار إنه «حاول في منطقة الشوف معالجة المشكلة عبر تجميع الكلاب الشاردة وتلقيحها ووضع تاغ أو علامة زهرية اللون في أذنها ليعرف كل مَن يلتقي بها أن لا خطر منها، كما سعى إلى جمْع الكلاب في مأوى خاص مع تأمين الطعام اليومي لها واللقاحات».

لكن رغم ذلك فهو لا يرى أن هذا هو الحل للمشكلة، «فلبنان الذي بات عدد الكلاب الشاردة فيه يفوق 70 ألفاً بسبب تَراكُم النفايات التي يتغذى منها الكلاب فيتكاثرون نتيجة التغذية الجيدة، وبسبب غياب الرقابة وفقدان التمويل للبلديات وخطط العلاج، صار بحاجة الى اعتماد طريقة للتخلص من هذه الكلاب».

ويضيف: «يمكن القبض على الكلاب الشاردة ومن ثم تصنيفها وبعدها اللجوء الى التخلص من غالبيتها بأسلوب رحيم، إذ لا يمكن إعادتها الى الشوارع، ولا تأمين الكلفة لإبقائها في الملاجئ. كما أن إيجاد بيوت لها أو مزارع لا يحلّ إلا جزءاً يسيراً جداً من المشكلة. والحل إذاً هو تقليص عددها. وهنا أسأل هل تعقيم او خصي الكلاب يزيل داء الكلَب؟ في الحقيقة عدد الكلاب في لبنان سواء الشاردة أو في البيوت هو أكثر من اللازم… الناس في لبنان يعانون من الفقر والجوع فهل نجعل الكلاب أهمّ منهم؟».

ويُنْهي د. أدهم خطار قائلاً: «وزارة الزراعة مشكورة تحركت بسرعة ود. ريهام البسام المسؤولة عن هذا الملف في وزارة الزراعة كما نقيب الأطباء البيطريين د. نضال حسن كلهم يقومون بمهماتهم. لكن حين تشكّل الكلاب خطراً على الإنسان لا بدّ من وضع حد لهذا الخطر وعلى الجمعيات ان تفهم هذا الأمر».