IMLebanon

أثمان “كرة النار” في الجنوب “كرة ثلج” تتدحرج

جاء في “الراي الكويتية”:

يأوي لبنان الآن إلى رصيف الانتظار، كأنه تحوّل «كبسولة» تتقاذفها رياح الإقليم. حرب المشاغلة في جنوبه تراوح بين الخشونة والمشاغبة. وفي الداخل حراك لملء الوقت الضائع يشتد حيناً ويخفت أحياناً. فالوطن الصغير صار معلق المصير على مآلات المنطقة في مقايضاتها الكبرى أو حروبها… الكبرى.

العيون في بيروت مصلتة على الهدنة المحتملة في غزة وسط اقتناع أصبح محسوماً بأنها ستتلازم مع هدنة في جنوب لبنان من شأنها أن تستدرج مهندس التفاهمات اللبنانية – الإسرائيلية، الوسيط الأميركي آموس هوكشتين الذي سبق ان نجح في البحر، وها هو يجرب حظه في البر المزروع بالنار والأفخاخ.

ثمة مَنْ يعتقد أن صمت المدافع في غزة وجنوب لبنان والساحات الرديفة سيُعلي صوت التفاوض في لبنان ومعه إيذاناً بالتوصل إلى تفاهمات بالأحرف الأولى لن تبصر النور إلا في ضوء التسوية الكبرى في المنطقة، تفاهمات حول ترتيبات في جنوب لبنان ترضي إسرائيل ولا تُغضب «حزب الله»، مصحوبة بترتيبات سياسية لإنهاء الشغور في رأس الدولة اللبنانية.

وإلى حين اتضاح الخيط الأسود من الأبيض في المنطقة المتأرجحة بين المساعي لإمرار الهدنة في غزة والجنوح الإسرائيلي المجنون لاقتحام رفح، يبقى لبنان أسير دوّامة الحرب المتمادية في جنوبه منذ نحو خمسة أشهر ونصف شهر وما يتكبّده من أثمان باهظة في الأرواح والممتلكات والبنى التحتية والإقتصاد.

قرى حدودية مدمرة «عن بكرة أبيها»، بلدات لم تعد هي هي بل صارت تشبه أحياء غزة، خسائر هائلة في القطاع الزراعي والتربة وشتى ميادين الحياة… أما الضحية الأكثر إيلاماً فهم الناس الذين أجبرتهم الحرب على النزوح إلى ظروف مأسوية وجعلتهم يدفعون فاتورة موجعة من استقرارهم.

تهجير قسري، خوف دائم وقلق مستمر، عائلات مشتتة لا يجمعها سقف، وطلاب يجاهدون للملمة ما تيسر من السنة الدراسية ونازحون يعيشون معاناة في مأواهم القسري. فأضرار الحرب على الناس لا تقيسها الأرقام بل الحكايا والقصص وراء العيون الدامعة… «الراي» جمعت بعض هذه القصص من أصحابها وعنهم.

في مركز إيواء في مدرسة صور الوطنية جلس أبوراغب السبعيني على كرسيه ينظر إلى البعيد سارحاً يلقي برأسه على راحة يده عله يستريح. «لم أكن أمبراطوراً في ضيعتي ميس الجبل لكن كان عندي دكان صغير يقصده الجيران ورجال الضيعة لشراء القليل أو للجلوس حول ركوة قهوة وكنت أعود مساء إلى البيت راضياً بما جمعته في نهاري. كان لوقتي قيمة ولحياتي قيمة… هنا لا أحد يعرفني وأشعر بنفسي ثقيل على كل من أقصده في زيارة»…

الدمعة ذاتها في عيني ام عدنان وهي ربة أسرة من قرية الضهيرة التي دمرت على نحو شبه كامل. ها هي تردد بحسرة «كنا نجلس جميعاً على مائدة الإفطار في رمضان مع أولادي المتزوجين، اليوم نفطر أنا وزوجي وأخته وحدنا كاليتامى هنا في المدرسة، لا إبني المتزوج ولا إبنتي وعائلتها يستطيعون زيارتنا كأن لا عائلة لنا ولا أهل».

المسؤولون عن مركز الإيواء يفكرون في تحضير إفطار كبير مشترك لكل النازحين الموجودين في المركز. لفتة كريمة لكن هل تغني عن فرحة اللقاء مع الأهل ودفء البيت وكرم مائدته؟

النزوح المؤلم

واقع موجع يحاول النازحون التعايش معه مرغمين، يخفون دمعهم ويتشبثون بأمل انتهاء الحرب لاستعادة حياتهم الطبيعية. لكن العودة إلى ما ينتظرهم هناك في القرى المنكوبة أشد قسوة من النزوح. «قرى كثيرة باتت مدمرة في شكل شبه كلي» وفق ما قاله لـ«الراي» نائب رئيس بلدية صور ورئيس وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات صور حسن حمود، الذي عدد «بليدا وحولا والضهيرة ويارين ومروحين وعلما الشعب وميس الجبل كما ان بعض القرى تغيرت معالمها كما في عيتا الشعب التي دمر شارعها الرئيسي تدميراً كاملاً».

وأضاف حمود «أولوية الناس اليوم الأمان والهرب من قصف العدو لكن حين تنتهي الحرب ستتغير الأولويات، سيعودون إلى أراض زراعية لا يعرفون كيف يتعاملون معها بعدما قصفت بالفوسفور المؤذي، هم في معظمهم يعملون في الزراعة كمياومين. موسم العام الماضي من الزيتون تضرر في معظمه وموسم الدخان بالكاد استطاعوا تحصيل بعض منتوجه خلال الهدنة القصيرة التي حدثت لكن الموسم المقبل الذي تتم زراعته عادة في شهر 12 ومن ثم في شهر 3 لن يستطيعوا الإفادة منه».

وزير الزراعة عباس الحاج حسن كشف في إحدى إطلالاته أن «الأضرار الزراعية يمكن أن تقدر بنحو مليارين ونصف مليار دولار والوزارة تجري إحصاءات شبه يومية عما يصيب القطاع الزراعي من أضرار نتيجة عدم القدرة على جني المواسم وزرع مواسم جديدة ونفوق الحيوانات والطيور وتضرّر الغطاء الحرجي والنباتي. والجنوب اللبناني كان يقدّم ما بين 25 في المئة الى 30 في المئة من مردود إلى الاقتصاد الوطني لكن قدراته تراجعت اليوم نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المباشرة عليه.»

خسائر أبناء الجنوب لا يمكن تحديدها بالأرقام وإن كانت مخيفة. لقد أحصى أحد العاملين على الأرض – قال حسن حمود – أكثر من خمسة آلاف بيتاً متضرراً لاسيما في بلدات الشريط الحدودي ويحكى اليوم عن إمكان تعويض الحكومة على المتضررين. وهو يسأل «هل يُمكن أن يركن الجنوبيون إلى وعود حكومة مفلسة؟ ومَنْ يعوض على مغترب جنوبي أمضى عمره في أفريقيا يعمل في أصعب الظروف ليعود إلى أرضه ويبني له ولأولاده بيتاً يليق بهم، بعدما بات قصر أحلامه مستوياً مع الأرض؟ هل تعوض عليه الدولة جنى عمره وأيام شقائه؟»

أرقام تختزل المأساة

26 الف نازح مسجل يشكلون 6825 عائلة، يتوزعون على خمسة مراكز إيواء في مدينة صور ومحيطها لكنهم لا يشكلون العدد الكامل للنازحين الذين تخطوا المئة الف. فمعظم أهالي القرى الحدودية الذين هجروا من بيوتهم قبل التحرير في العام 2000 يملكون بيوتاً في بيروت وضواحيها وقد نزحوا إليها اليوم. اما الذين سجلوا فهم من لا يملكون أي بيت ثان واضطروا إما إلى النزوح إلى مراكز إيواء أو إلى بيوت في القرى القريبة تم تقديمها لهم أو جرى استئجارها من القوى السياسية في المنطقة.

وأوضح رئيس وحدة الكوارث في اتحاد بلديات صور ان «النازحين المسجلين الذين يسكنون في مراكز الإيواء ينالون مساعدات ويحصلون عادة على ثلاث وجبات يومياً. أما في رمضان فيحصلون على إفطار ساخن وسحور تعده الفرق المختصة في مؤسسات الإمام موسى الصدر كما نحاول تأمين سخانات للتدفئة، أما من هم خارج مراكز الإيواء فلا يحظون بالمساعدات التي مازالت قليلة جداً نسبة إلى حجم النزوح إذ أن قرى الشريط الحدودي أخلاها أهلها في نسبة 90 في المئة وكذلك القرى المحاذية لها بعدما طالها القصف لاسيما الفوسفوري وكذلك الأمر في النبطية والزهراني».

… محظوظون «نازحو المدارس» لأنهم ينالون مساعدات لكن هل يعلم الناس أنهم يعيشون في غرف الصفوف دون أي خصوصية ويتشاركون الحمامات ذاتها مع عشرات الأشخاص وحتى ان العائلات تفصل بين أفرادها بأغطية أسرة. وحتى من لجأوا إلى بيوت تم تقديمها لهم في القرى الأكثر أمناً صاروا اليوم ضيوفاً ينوء بهم من قدموا لهم المسكن مجاناً. فهؤلاء حالهم كحال كل اللبنانيين يفتشون عن مصادر دخل رديفة تعينهم في هذه الأيام السود. حتى البلديات لم تعد قادرة على تأمين الكهرباء والماء لبعض البيوت التي تأوي نازحين.

… كأنهم في بلدين

الواقع التعليمي ليس أفضل حالاً فعدد الطلاب الذين تركوا مدارسهم كبير جداً ومن بين النازحين المسجلين نحو 28 في المئة تحت سن السادسة عشرة ويقدر عدد الطلاب بنحو 3800 طالب نزحوا من 50 مدرسة وشرح حمود ان «وزارة التربية قدمت لهؤلاء خيارين إما المتابعة عن بعد أو الالتحاق بأقرب مدرسة رسمية. لقد حاولنا تأمين 400 لوح إلكتروني وتأمين الواي فاي للاتصال بالإنترنت لكن تجربة التعلم عن بعد لم تثبت نجاحها أيام كورونا فكيف تنجح اليوم في ظل الظروف البالغة الصعوبة التي يعيشها النازحون. لكن من يلتحق بمدرسة ويثبت مديرها ذلك ينال من اليونيسيف 200 دولار شهرياً مع تأمين الأكل والشرب وهذا يشكل حافزاً للطلاب للالتحاق بالمدارس الرسمية وعدم تضييع السنة الدراسية».

لكن ماذا عن طلاب القرى المحاذية الذين يعيشون في ظل القلق والخوف ويتابعون دراستهم ويستعدون للامتحانات الرسمية؟ من يحميهم من غدر عدو قد ينزل حمماً على مدارسهم في أي وقت حتى ولو كانت بعيدة نسبياً عن خطوط المواجهة الفعلية؟

لا شك أن خسارة الأرواح والأرزاق هي الأشد قسوة وألماً لكن خسارة المستقبل تكاد توازيها… من نزحوا إلى بيروت تركوا قلوبهم هناك في بلداتهم على غرار إيمان التي تركت الخيام ولجأت إلى بيروت، فهي قالت في اتصال مع «الراي» انه «لا يمكنني أن أشارك الناس هنا فرحهم برمضان. أحاول أن أتعايش مع الأجواء لكنني أشعر أن الناس هنا في واد وأهلنا في الخيام والجنوب في واد آخر، كأننا نعيش في بلدين مختلفين. في الأشهر الماضية كنت أمضي وقتي أمام الشاشة أنتظر التغطية الميدانية المباشرة لما يحدث في الجنوب علني أرى بيتنا وأعرف أخباراً عن صديقاتي في القرى المجاورة، اليوم صار بالكاد يمر خبر في النشرة المسائية وكأنه رفع عتب… أشعر بغصة كبيرة لأن الجنوب يدفع من دمه عن كل لبنان».

رغم المرارة التي تشعر بها إيمان، فإن كل لبنان يدفع من اقتصاده ثمن الحرب في الجنوب وآخر الأرقام تشير إلى ان الكلفة اليومية تقدر بـ6 ملايين دولار وفق «الدولية للمعلومات» بعدما تراجعت الحركة الاقتصادية بنسبة 10 في المئة منذ 8 أكتوبر حتى اليوم فيما يؤكد بعض الاقتصاديين انها تصل إلى 20 مليون دولار يومياً إذا أضفنا إليها توقف الاستثمارات في شكل شبه كلي وتراجع حركة المغتربين في اتجاه لبنان.

ولم يعد القلق يقتصر على الجنوب فهو يتمدد كـ«بقعة زيت» خصوصاً بعد الضربات الإسرائيلية لمنطقة البقاع، وبعلبك تحديداً، وسقوط صاروخ في منطقة حراجل الكسروانية إذ صار أي مواطن في أي مكان مهدداً بأن يطوله أذى إسرائيل. إبتسام شمص مواطنة من منطقة الهرمل تتوجه إلى بعلبك في شكل دوري روت لـ«الراي» ان «السكان في هذه المنطقة تنتابهم حال توتر ولا ينعمون بالأمان لشعورهم ان كل بيت قد يكون معرضاً للعدوان، خصوصاً ان المراكز التابعة لـ«لحزب الله» سواء الأمنية أو الاجتماعية والسياسية منتشرة بين البيوت لذا أي استهداف لها يعرض محيطها أيضاً للخطر لاسيما ان البيوت في هذه المنطقة صغيرة غير متينة وليس فيها ملاجئ ومعرضة للانهيار إذا ما أصابها قصف».