IMLebanon

البطريرك ليس وحيداً

هناك مَن يجهل التاريخ في لبنان، ويعتقد أنّ تاريخ هذا البلد بدأ معه، لأنّه لو لم يكن كذلك لمَا انزلقَ إلى مواجهة مفتوحة مع بكركي في محاولةٍ لإسكاتها واستهداف دورها، ما يقتضي تذكيره بأنّ كلّ الجيوش والأمم والممالك التي عبرت لبنان وتشهد عليها صخور «نهر الكلب» كان هدفها شبيهاً لهدفه، إلّا أنّها زالت عن وجه الأرض ولم يبقَ منها سوى الذكرى السيّئة المنقوشة على هذه الصخور، فيما بكركي استمرّت وتألّقت وحافظت على دورها ومهمّتها بجعلِ لبنان «أكثر من وطن»، بجعلِه رسالةَ تعايُش وتفاعل ليُحتذى بها في كلّ العالم.

فالهدف من الحملة القديمة-الجديدة معروف ويتمثل بضرب البيئة الحاضنة للبنان الذي حملته بكركي في وجدانها وعقلها وقلبها، فانتزعَت استقلاله في عشرينات القرن الماضي وميثاقَه في ألاربعينات، وجدّدت هذا الميثاق في التسعينات، وأنجزت الاستقلال الثاني في العام 2005، وبالتالي هناك من ينتقم من بكركي اليوم بمفعول رجعيّ على كلّ الإنجازات اللبنانية وتحديداً إخراج الجيش السوري من لبنان.

ويبدو أنّ هناك مَن تنبَّه، ولو متأخّراً، أنّه لولا بكركي لما خرجَت سوريا من لبنان، فقرّر تركيزَ مواجهته عليها في سياق حرب استباقية خِشيةً من أن يتحوّل بدوره مستقبلاً إلى ذكرى منقوشة على صخور «نهر الكلب». وخطورة بكركي، بالنسبة إلى هذا البعض، أنّها لا تواجه من مربّع فئوي، إنّما من مربّع وطنيّ ودفاعاً عن قيم إنسانية وحضارية.

فليس صدفةً أنّ «مجد لبنان أعطِي لها»، لأنّه ناتج عن تراكم إنجازات ومحطات وتواريخ شاهدة على جماعةٍ دافعَت عن الحرّية في لبنان «بقلوب من ذهب وصلبان من خشب»، فتمسّكت بإيمانها ومعتقداتها في أحلك الأزمنة وأصعبها، ولجأت إلى الوديان والمغاور حفاظاً على رسالتها في لبنان: الحرّية التي تشكّل وحدها الضمانة للعيش المشترك.

وإذا كان يسجَّل للبطريرك السابق مار نصرالله بطرس صفير أنّه فكّ «عقدة الألسن» حيال وجود الجيش السوري في لبنان، فإنّه يسجَّل للبطريرك بشارة الراعي أنّه فكّ «عقدة الألسن» حيال المحرّمات التي يحاول فريق معيّن ترسيخَها في أذهان اللبنانيين على طريقة أنّ المنتصر هو الذي يكتب التاريخ، في سياق حربه الثقافية الرامية إلى جعل وجهة نظره ترقى إلى مرتبة القداسة، فجاء الراعي ليكسر هذا النمط والأسلوب والنهج برفضِه مبدأ أن يسمحَ فريق لنفسه بتصنيف اللبنانيين بين وطنيّ وعميل، أو تحديد مَن هو العدوّ ومَن هو الصديق.

ولعلّ أكثر ما أزعجَ المتطاولين على البطريرك الراعي أنّه نجح في وقت واحد بضرب النمط الثقافي الذي حاولوا ترسيخه منذ العام 1990، كما نجح بإخراج المسيحيّين من اهتماماتهم المحلية إلى لعِب دورٍ على مستوى تدويل القدس والدخول على خط الصراع العربي-الإسرائيلي من بوّابة الفاتيكان، كما نجحَ في تأكيد أهمّية موقع رئاسة الجمهورية في المعادلة الوطنية وتثبيت ميثاق العيش المشترك بين اللبنانيين.

يُخطئ من يعتقد أنّ البطريرك وحيدٌ في هذه المعركة، كما يخطئ من يعتقد أنّ قاعدته مسيحيةٌ أو بعضٌ منها فقط، لأنّ قاعدته مسيحية-إسلامية عابرة للطوائف، وتضمّ كلّ مؤمن بلبنان وحريص على سيادته واستقلاله وديموقراطيته.

ويبقى أنّ «الجمهورية» التي آلت على نفسها الدفاع عن قِيم الجمهورية اللبنانية لن تتأخّر في الوقوف في طليعة المدافعين عمّن يعود لها الفضل في وجود لبنان.