IMLebanon

الراعي إلى أرض المسيح

الحملة التي بدأتها قوى الممانعة ضد مرافقة البطريرك بشارة الراعي للبابا فرنسيس إلى الأراضي المقدسة طبيعية، ومَن يعتقد خلاف ذلك هو واهم، لأنّ هذه القوى داعية حرب بالأساس، وستتصدى لأيّ رسول سلام ومحبّة في هذا العالم.

لا يفترض بالبطريرك أن يعير أي أهمية للحملات على زيارته، هذه الحملات التي تؤكد صوابية خطوته وتضفي عليها المزيد من المشروعية، لأنّ التقاطع مع هذه القوى حول أيّ موضوع وقضية وعنوان هو بحد ذاته الخطيئة التاريخية، فيما التعارض والتناقض معها هو الصواب والطريق نحو الخلاص. 

وعلى رغم اختلاف الدور وعدم صحة التشبيه، إلّا مَن يزايد على «أبو عمار» ومنظمة التحرير في القضية الفلسطينية لا يستحقّ مجرد الرد، لأنّ لهذه القضية أهلاً هم الأولى بها من مزايدات أقلوية تصدر عن أنظمة قمعية كلّ هدفها إيجاد دور لها على حساب دماء الشعب الفلسطيني وتضحياته. وما ينطبق على الفلسطينيين ينسحب على اللبنانيين الذين ممنوع عليهم تقرير مصيرهم والعيش بسلام في ظل دولة سيّدة على أرضها. والمهزلة نفسها تتكرر مع الشعب السوري الذي انتفض لاستعادة حريته وإعادة سوريا إلى الحضن العربي.

فالهجمة على البطريرك متوقعة، إنما على الراعي، في المقابل، أن يحدد عناوين زيارته وأهدافها، وألّا يضعها فقط تحت عنوان إداري يتمثّل بتسلّم الكنيسة المارونية إدارة كنيسة القيامة، أو عنوان ديني يتعلق بالحج إلى الأراضي المقدسة الذي يشكل حلماً لكلّ مسيحي مؤمن، أو تفقد الرعية لحَثّها على البقاء في أرضها في خطوة عملية رداً على المتباكين شكلاً على الهجرة المسيحية عن المشرق العربي الذي، باستثناء لبنان، تحوّل الوجود المسيحي فيه إلى صوَري.

فالعناوين المشار إليها مهمة ولكنها غير كافية، خصوصاً أن كلفة الاشتباك ستكون مكلفة في ظل غياب الحاضنة المسيحية السياسية لعدة أسباب، أهمها أنّ الزيارة تأتي في لحظة غير مؤاتية لبنانياً، حيث تتزامن مع معركة رئاسة الجمهورية التي لا مصلحة لأيّ فريق مسيحي بتبَنّي الزيارة في هذا التوقيت والدفاع عنها، إلّا في حال دخول الكنيسة المارونية على خط الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي ودفعها باتجاه السلام، الأمر الذي يستحق فعلاً تجنيد الطاقات في سبيل هذه المعركة التي يؤدي النجاح فيها إلى تحييد لبنان، كما قطع الطريق أمام المحاولات الإيرانية تزكية خيار العنف في لبنان والمنطقة ترسيخاً لدورها الذي لا يمرّ إلّا من بوابة الحرب.

وقد جاء التصريح الأخير لمستشار الإمام الخامنئي للشؤون العسكرية يحيى رحيم صفوي بأنّ «خط دفاعنا الأول لم يعد في جنوب إيران، إنما في جنوب لبنان»، ليؤكد بأنّ طهران لن تسمح بالسلام، وأنّ المعركة الفعلية هي بين من يريد استمرار الحرب وبين من يسعى للسلام، فضلاً عن أنّ لبنان لن يستعيد استقراره ويتخلّص من الحجج الواهية المتصلة بالقوة الإلهية القادرة على مواجهة الخطر الإسرائيلي إلّا بإرساء السلام بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي على أساس دولتين سيدتين وقدس مفتوحة أمام الجميع.

فالكنيسة المارونية التي خاضت معركة لبنان الكبير، وساهمت بشكل فعّال وكبير بتحرير لبنان من الجيش السوري، هي الوحيدة بين المسيحيين اليوم التي باستطاعتها، لاعتبارات مختلفة، حمل لواء السلام عبر الدخول على خط الصراع العربي-الإسرائيلي كقوّة ضاغطة جنباً إلى جنب مع الشرعية الفلسطينية بغية دفع إسرائيل نحو التسوية التاريخية الموعودة، والتي أدى غيابها إلى النزف المسيحي عن المشرق العربي، لأنّ العدو الأوّل للمسيحيين هو الحرب وغياب الاستقرار. 

وإذا كان من دور مسيحي مشرقي فهو من أجل أهداف السلام والحرية والديموقراطية، وليس تغطية تحالف الأقليات، ولا تبنّي الخطاب الخشبي الممانع الذي يتحمّل وحده الهجرة المسيحية المشرقية. كما لا نفع لكلّ المجامع التي تعقد من أجل مسيحيي الشرق، وآخرها السينودس الذي أطلقه البابا بنديكتوس ودعا فيه إلى حوار مسيحي-إسلامي-يهودي ما لم يقترن بخطوات عملية تمهّد للسلام في المنطقة. 

وإذا كان من آمال معقودة على زيارة البابا إلى الأراضي المقدسة، فهي من أجل عودة الكنيسة الكاثوليكية من الباب العريض إلى الشرق الأوسط وقضاياه، خصوصاً أنّ الفاتيكان على تناقض مع وجهة نظر إسرائيل بالنسبة إلى السلام مع الفلسطينيين والقدس التي يريد تدويلها وجعلها مفتوحة لكلّ الديانات التوحيدية، وذلك على رغم العلاقات الديبلوماسية بين الجانبين.

ومعلوم أنّ إسرائيل تحاول تجنّب الاشتباك مع المسحيين بغية الحصول على العطف الغربي، علماً أنّ خلافهم العقائدي هو مع المسيحيين لا المسلمين. وبالتالي، تشكّل الزيارة إلى أرض المسيح مناسبة لإعلاء قضية الانسان في فلسطين وتحوّل البطريرك إلى داعية سلام كتلميذ للمسيح يحاكي رفض العنف ويقول كلمة الحق في وجه كل الناس. وعلى غرار المسيح الذي لم يخف من الصلب والموت، فعلى أتباعه أن يشهدوا للحق والحقيقة ويبشّروا من أجل السلام.

فعلى البطريرك أن يعطي الزيارة بُعداً يتجاوز الديني-الرعوي إلى وضع المسيحيين على خط السلام في المنطقة، لأنّ قوتهم تأتي من قوة دورهم ومدى قدرتهم على «شبك العلاقات» مع الدول الغربية والعربية في عناوين أبعد من محلية، خصوصاً أنّ حياد لبنان لا يبدو ممكناً إلّا من باب مساهمتهم في إطفاء الأزمات في منطقة الشرق الأوسط.