IMLebanon

المكيافيليّة» الأميركية في العراق

يحلو لبعض المراقبين إيجاد بعض أوجُهِ شبَهٍ بين الزلزال «الداعشي» الذي ضرب العراق، والزلزال الذي أحدثه غزو صدّام حسين للكويت عام 1995. فالزلزالان ظهَرا فجأةً، ليتبيّن في ما بعد أنّ تخطيطاً «مكيافيليّاً» سبقهما وبعناية فائقة.

مع غزو الكويت، اضطرّت الدول الخليجية للانخراط في حرب مكلِفة مادّياً ومعنوياً وخسارة امتيازاتها النفطية، فيما تجد إيران نفسَها اليوم مجبرةً على الدخول المباشر في مستنقع لإنقاذ مصالحها الحيوية وخسارة حرّية حركتها. وبينما جاءت نتيجة حرب الخليج الأولى حرباً ثانية غيّرَت وجه المنطقة جذرياً، بدا أنّ مَن واكبَ زلزال «داعش» في العراق يتحضّر لإرساء واقع جديد لم يكن في حسبان أحد.

بدايةً كان واضحاً أنّ تراكم الأخطاء والفساد على مستوى إدارة السلطة في العراق لا بدّ أن يؤدّي إلى انفجار في يومٍ ما. أضِف إلى ذلك أنّ كلّ ذلك كان يحصل تحت عنوان الصراع المذهبي، وهو صراع شديد الحساسية وبالغ الدقّة وسريع الاشتعال، وهذا ما حصل.

فالانتفاضة السُنّية التي حصلت لم تكن من عمل تنظيم داعش لوحدِه كما أنّها لم تكن عفويّةً بالكامل. فالواضحُ أنّ هناك من يتحدّث عن رعاية سعودية لمجموعات سنّية، مثل الجبهة الإسلامية التي يتزعّمها عزّت الدوري، باشرَت تحرّكها على الأرض ودفعَت بالناس إلى الشارع وعملت على تنفيذ حالات تمرُّد في الجيش، ما أدّى إلى انهياره سريعاً.

والعارفون يقولون إنّ القدرة الحقيقية لتنظيم داعش في العراق حوالي الستة آلاف مقاتل. وهي أعداد كبيرة نسبيّاً، لكنّها لا تكفي بالتأكيد للسيطرة على كلّ هذه المناطق. إلّا أنّ حال التعبئة التي كانت تسود المناطق السنّية سمحَت باحتضان وتبَنّي عنوان «داعش» لِما حصل كرَدّ فعلٍ غرائزيّ مضاد.

وفيما بدا للسعودية أنّ الأمور خرجت عن السيطرة مع استيلاء داعش على ما يقارب نصف مليار دولار وأسلحة وأعتدة نوعية وحسّاسة، كما هناك من ينظر للأمور بطريقة مختلفة، اعتبرَ الأميركيّون أنّ «الرعاية السعودية للانتقاضة السنّية هدفُها الشغب والتشويش على المفاوضات الأميركية – الإيرانية». لكنّ همسات في كواليس دبلوماسية تشير إلى معرفة واشنطن المسبقة «بالانتفاضة السنّية»، مع مساهمتها في تسليط الضوء على تنظيم داعش، وذلك للأهداف التالية:

1- تنفيس الاحتقان السعودي الحاصل بسبب التقارب الاميركي – الايراني، والذي أنتجَ مفاوضات تاريخية، مع الإشارة إلى أنّ كلّ ما يحصل لن يؤثّر سلباً على التسوية المنتظرة.

2- توجيه ضربة ميدانية لإيران في قلب مصالحها الإقليمية، وبالتالي العمل على خفض سقف طموحها داخل غرف التفاوض، وفي الوقت نفسه دفع جناح المحافظين والذي يعمل على تكبيل حركة الإصلاحيين على إبداء بعض المرونة.

من هنا كلام روحاني حول احتمال حصول الاتفاق في تمّوز بعدما كان الكلام عن تأجيله لبضعة أشهر.

3- وهو الهدف الأكثر «مكيافيليّة» والذي يؤسّس لجعلِ كوادر منظمة داعش تخرج من مخابئها في صحراء العراق وتنفلِش في أزقّة وشوارع المناطق التي تمَّت السيطرة عليها، تمهيداً لاصطيادها لاحقاً بطائرات من دون طيّار «الدرون»، وذلك في ضوء نجاح هذه التجربة منذ العام 2007، تاريخ البدء باعتماد واشنطن لهذا النوع من العمليات وعلى نطاق واسع في اليمَن وأفغانستان وباكستان. وأقامَ مؤخّراً معهد ويلسون للدراسات في واشنطن ندوةً علمية حول هذا التوجّه الناجح، واصفاً إيّاه بدبلوماسية «الدرون».

واعتبر المعهد أنّ التحديات التي تواجه الولايات المتحدة الأميركية في العراق بعد انسحاب جيشها تُحتِّم عليها هذا النوع من العمليات السرّية.

لذلك يعتقد بعض الخبراء أنّ ما يجري الآن سيؤدّي إلى انكشاف هذه الخلايا، وهو ما يسعى إليه الخبراء الأمنيّون في المؤسسات الأمنية الاميركية. لكنّ ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً وستُزهق أرواحٌ، وتسيل دماء كثيرة.

4- دفعُ طهران لإيجاد سُبل تنسيق عسكرية مع واشنطن، كون إيران تبقى غير قادرة على الانزلاق لوحدها في حرب مذهبية مكشوفة مع سنّة العراق خشية تحرّك الخطر السنّي بكامله من باكستان وصولاً إلى لبنان، وهذا ما يعني إيجاد مكان تعاون لإيران من ضمن مجموعة واسعة تضمّ الأكراد (والذين سيكون لهم دورٌ أساسيّ في مواجهة داعش لغياب الحساسيّة المذهبية) والسعودية (التي ستبدأ قريباً مفاوضات مباشرة مع إيران حول ملفّات المنطقة بدءاً من العراق ومستقبله وتركيبة السلطة فيه) وتركيا، وبطبيعة الحال إسرائيل التي ستقف خلف الستارة الأميركية.

وتبدو إيران مرغمةً على إقناع حلفائها العراقيين بالتعاون ميدانياً مع مجالس الصحوات المدعومة من السعودية.

لكن كيف سينعكس كلّ ذلك على لبنان؟

القائم بالأعمال الأميركي في فرنسا، والذي يتولّى الآن شؤون بلاده بسبب غياب السفير، يقول بصراحة فجّة لزوّاره أنْ لا أحد يفكّر بلبنان الآن، بسبب الانشغالات الكبرى الحاصلة في المنطقة، وأنّ الوقت قد يكون كفيلاً لأن يتعب الجميع تمهيداً للدخول في تسوية رئاسية.

إلّا أنّ أوساطاً دبلوماسية أميركية أخرى توقّعت انعكاسات مباشرة للزلزال العراقي على الساحة اللبنانية بطريقة مشابهة ولو من بعيد لما حصلَ في لبنان عام 1990 عقبَ الزلزال الكويتي. ولا تستبعد هذه الأوساط مثلاً أن تتحرّك بعض الخلايا النائمة في لبنان على وقع التطوّرات التي ستحصل في العراق، وأن تحدث هزّات أمنية قبل أن تعمد الخطوط المفتوحة بين إيران والسعودية عبر سلطنةِ عمان إلى فرض تسوية ما.

وتروي هذه الاوساط أنّ السلطان قابوس بدأ يتولّى بنفسه إدارة هذا الملفّ نظراً لدقّة الوضع في المنطقة، بعدما كان من مسؤولية وزير الخارجية العماني.

وتستشرف هذه الأوساط سلفاً بأنّ التسوية المقبلة في لبنان يجب أن تتفادى أخطاء التجربة العراقية، بمعنى أنّ الرئيس المقبل سيكون خارج اصطفاف 8 و14 آذار كي لا يشعر أيّ طرف بالقهر، ولو أنّ هذه التسوية تبدو أقرب لأن تحصل على «الحامي» وليس على البارد، كما كان يتمنّى اللبنانيون. ربّما الأفضل استعادة مشهد العام 1990 والتمعّن بدروس تلك المحطة جيّداً.