يشعر عموم اللبنانيين بشيء من الإسترخاء والسّعادة لوقوع الفراغ أو الشّغور في موقع الرّئاسة.. بعد شهور ثقيلة حاولت فيها الطبقة السياسية جاهدة إثبات ذاتها أمام ذاتها.. فتمادت بالذّاتية المفرطة للكبار منهم والصّغار على حدّ سواء.. مما جعل الأمور مكشوفة وبوضوح تام للعامة والخاصة.. وكانت الناس تشعر بالإحباط والخواء السياسي في كلّ مرة تعاد فيها مسرحية الدعوة إلى جلسة إنتخاب رئيس للجمهورية..
يشعر اللبنانيون بالرّضى والأمل لأنّ الطبقة السياسية أعادت تأكيد عجزها.. وعدم وجود قدرة لديها أو نيّة للإبتكار أو تجديد الحياة السياسية.. ففي كلّ مرة تعاود الطبقة السياسية حضورها مجتمعة في السلطة أو البرلمان يتذكّر المواطنون المحاور والغزوات والإشتباكات والإعتصامات وإلى ما هنالك من أشكال التّفكك والإنهيار التي أدت إلى وصول هذه الطبقة إلى موقع إدارة شؤون البلاد..
يشعر اللبنانيون بالقوة والتّفوّق كلما تأكّدوا بأنّ الطبقة السياسية لا تزال تسعى للتّموضع في الرئاسات والمجالس والوظائف والإمتيازات.. لأنّ اللبنانيين عرفوهم أيام المحنة من خلال الرّسوم والخوّات والحواجز والإيصالات والضرائب.. في حين أنّ معظم اللبنانيين يعملون في القطاع الخاص وينتجون ويبتكرون.. ويصنعون ويبنون ويجدّدون.. ويستقدمون الإستثمارات والسياح ويهاجرون.. ويزرعون ويحصدون.. ويصدّرون الثمار ويستوردونها.. ويدفعون للطبقة الحاكمة الخوّة عوضاً عن الضريبة.. ويجبون «الميري» للدولة من أفواه الفقراء عبر TVA..
يشعر اللبنانيون بالمرح بعد كوميديا الطبقة السياسية التي قدّمت على مدى شهرين من الزمان.. تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً وإعلاماً وآراء.. واكتشاف البارود بأنّنا ذاهبون إلى الفراغ وكأنّنا كنّا نعيش ممتلئين بذاتنا الوطنية.. ومعتدّين بهويتنا وتجربتنا.. ودولتنا وحكومتنا.. ونوابنا ووزرائنا !..
يشعر اللبنانيون بالحزن الشّديد على الأجيال الجديدة التي لن تجد في الأمد القريب دولة ونخبة تحمي حقوقها ووجودها.. وتقودها نحو التّقدّم والإزدهار.. دولة مدنية ديمقراطية يكون الفرد فيها كياناً كامل السيادة على نفسه.. وكامل العضوية في مجتمعه ووطنه.. مكتمل العناصر وغير مقطّع الأوصال.. ومفكك الحاضر والماضي.. أي أن يكون مواطناً لبنانياً مدنياً ديمقراطياً..
يشعر اللبنانيون باليأس لأنّ اللّعنة الطائفية تجاوزت حالة المرض وأصبحت وباء يفتك بالوطن والدولة والمجتمع جيلاً بعد جيل.. ويجدّد نفسه بنفسه.. ولا يوجد في الأمد القصير أي أمل بالقضاء على هذا الوباء الخطير.. إذ لا وجود للمواطن.. ولا وجود للحزب.. ولا للتجمّعات المدنية بالمعنى المدني على الأقل حتى الآن.. ولهذا نحن نعيش كمجموعات وهمية في مستنقعات طائفية ومذهبية بسبب عدم الإنسياب في التجربة الوطنية الإجتماعية الثقافية.. وفي كلّ حراك تتصاعد معه رائحة كريهة من المياه الراكدة في المستنقعات الطائفية والمذهبية.. وهذه أول مرة أدركُ فيها العلاقة بين الشعور بالكراهية والرائحة الكريهة..
يشعر اللبنانيون بالضّجر والملل عند ذكر التّجمعات السياسية.. لأنّها في الحقيقة تجمعات إستباقية.. أي أنّها وُجدت من أجل تدمير الهدف وليس بلوغه وعلى النموذج الأميركي أبان حرب العراق.. أي الحرب على النوايا.. وبالتالي يكون الهدف هو تدمير الطرف الآخر.. لذلك نجدهم غير قادرين على الدخول في عملية إنصهار وطني.. وأنّ كلّ اللقاءات بينهم تقوم على قاعدة إستراحة المحاربين أو الهدنات المؤقّتة أو وقف إطلاق النار لأنّ سبب تكوّنهم هو القضاء على بعضهم البعض.. أي أنّهم صُنِعوا ليكونوا أعداء فقط..
يشعر اللبنانيون بالمهانة حين يستمعون لزعماء السياسة اللبنانية وهم يتحدّثون عن سلامة الدولة والإقتصاد والمالية العامة.. وخصوصاً مع النقاش عن سلسلة الرتب والرّواتب.. وارتباط ذلك بالتّحركات المطلبية المتزامنة مع جلسات مجلس النواب لتزوير وعي اللبنانيين وجعلهم يعتقدون بأنّ سلامة البلاد واستقرارها بيد هذه الطبقة السياسية القابضة على المقدرات.. ولا تتحرّك تلك القوى الحية من أجل قضية وطنية تهدّد مستقبل البلاد كأن نبقى تسعة أعوام من دون موازنة عامة.. أو عاماً من دون حكومة.. أو أن نبقى الآن زمناً من دون رئيس.. فاللبنانيين أيام زمان كانت لديهم قضايا وطنية كبرى وهي الأساس و قضايا مطلبية في بعض الأحيان..
يشعر اللبنانيون بالإنهيار الفني والثقافي حين يتابعون حفلات الزجل السياسي اللبناني.. إذ يصدح كلّ واحد للتّجريح بالآخر بالسّباب والشّتائم والتّخوين والإتهامات والتّهديدات والعنتريات..
يشعر اللبنانيون بالخوف على تراثهم الزجلي الإبداعي الجميل.. حين كان رموز جوقة الزجل يتناغمون فيما بينهم غزلاً وسجالاً ثم يلتئمون فرحاً وتغريداً.. كنا معهم نفرح ونحب ونبكي ونضحك ونرقص.. وكلّما سمع اللبنانيون زجّالي السياسة اليوم يترحمون على أيام زغلول الدامور وزين شعيب وموسى زغيب وجوقة القلعة والشحرور.. الله يرحم أيام زمان..
أردت بهذا النص تأكيد إنكشاف الطبقة السياسية أمام عموم اللبنانيين.. ودفاعاً عن وعي اللبنانيين وعن إنسانيتهم وذكائهم وعلمهم وتفوّقهم ونجاحهم.. بمعزلٍ عن دولتهم وطبقتهم السياسية.. وذلك عبر التّخاطب المباشر وتسمية الأشياء بأسمائها إلى حدّ بعيد ودون إصطفاف أو تموضع سياسي.. طائفي أو مذهبي.. وفي ذلك تجسيد لحرية المواطن وليس تمثيلاً لدوره بما هو مواطن إفتراضي في وطن إفتراضي ودولة إفتراضية.. تلك الحرية التي جسّدها سمير قصير في كتاباته.. والذي يجعلكم تتساءلون الآن ما علاقة سمير قصير في كلّ ما ذكرناه!!..
يصادف بعد غدٍ.. الثاني من حزيران.. ذكرى اغتيال الكاتب الكبير سمير قصير الذي تابعته كاتباً ومفكراً.. مزج المعرفة بالثقافة وبالرأي بالمتابعة.. وبتعمّق وإيمان بالفرد وإرادته وقدرته.. فكتب نصاً مباشراً بالوقائع كما هي.. وسمى الأشخاص بأسمائهم.. والموضوعات بحقيقتها.. مما جعل من كتاباته عملية تفكير وتأمل أنتجت رأياً واضحاً وبسيطاً (عسكر على مين).. فكانت كتاباته تحفيزاً للشباب على التّفكير وصناعة الأسئلة.. فكان نصه المباشر تمرداً على النص اللبناني والعربي المتكيّف مع الحاكم وقوى الأمر الواقع والأمن والدين والوصاية.. بالإضافة إلى الممّول.. وكلّ تلك العناصر التي سيطرت على النص المتكيّف عقوداً طويلة فقدت فيها الكتابة معناها.. وانعكست إنحطاطاً على النص الإبداعي عموماً.. رواية وشعراً وصحافة إلخ.. فأصبحنا مطبّعين بصاحب السلطة كبيراً كان أم صغيراً.. إلاّ أنّ سمير قصير تمرّد على النّص المتكيّف وقدّم نصّه المباشر ثمرة مبكرة لربيع عربيّ كتابيّ واعد نعيش بداياته الآن.. ولو كان سمير قصير حياً معنا الآن لكان متقدّماً جداً في كتابة النص المتفاعل مع التغيير الكبير في الوعي العربي الجديد..
وتأكيداً على أهمية نصّ سمير قصير المباشر.. قدّمتُ هذا النص المباشر والمتواضع والموجّه إليه مباشرة.. إعتقاداً منّي بأنّه أفضل من يقرأه.. وأردته أيضاً تحية إلى سمير قصير الذي أحببته كاتباً.. وأحبّوه شهيداً..