IMLebanon

عمّا جرى في عرسال… رُبَّ ضارّةٍ نافعة

لا وقتَ الآن لتصفية الحسابات وبناء المواقف السياسية بمفعول رجعي. ملفّ «عرسال» الذي كشفَت أحداثُ الأيام الأخيرة خطورته، لم يفاجئ المُطلعين عليه من قرب، فالجميع كانوا يعلمون أنّهم سيصلون إلى هذه اللحظة، وإنْ حاولَ البعض أن يكابرَ ويَحرفَ سياقات الأمور عن طبيعتها.

رُبَّ ضارَّةٍ ضارَّة، وأخرى نافعة. وتوقيف الجيشِ اللبناني الإرهابيَّ عماد أحمد جمعة، كان يمكن أن يمرّ ببساطة، لو كانت الظروف التي يمرّ بها المسلحون في القلمون وجرود عرسال غيرَ الظروف التي طرأت عليهم بعد توالي الهزائم العسكرية على الأراضي السورية. هي إذاً ضارّة نافعة أرادها البعض ضارّةً في المطلق.

بعد معركة جرود القلمون الأخيرة، لم يبقَ أمام المسلحين سوى عرسال التي تشكّل «متنفساً» لهم وحاضناً لكثير من عوائلهم بصفةِ نازحين. واعترافات الموقوف جمعة في التحقيقات التي جرت معه في مديرية مخابرات الجيش كشفَت عن مخطط خطير، كان يهدف إلى «احتلال عرسال» والانطلاق منها مجدّداً في عمليات داخل الحدود السورية من جهة، وضمن القرى المحاذية على طول الحدود اللبنانية من جهة أخرى. ولو أنّ هذا المخطط قد نجح، فالمشهد سيكون أصعب وأكثر خطورةً ممّا هي الحال اليوم.

قائد أحد الألوية المنضوية في دولة «داعش»، والذي بايَع «الخليفة ابراهيم» مجدّداً، كان «يزور» لبنان لوضع اللمسات الاخيرة على عملية اجتياح تنفّذها «داعش» لكلّ قرى البقاع الشمالي المحاذية للحدود السورية، على غرار ما جرى في الموصل والشمال. وفي المعلومات أيضاً، أنّ مجموعات وخلايا نائمة موجودة في الشمال كانت على عِلم بالمخطط وتنتظر إشارة الانطلاق لتواكب بدورها دخول «داعش» من الجهة المقابلة.

مصادر عسكرية أكّدت أنّ جمعة، اعترف بوجود أكثر من خمسين فصيلاً مسلّحاً من الفصائل التي بايعَت «داعش» على الحدود مع لبنان وفي مناطق جردية قريبة. وقالت إنّ جمعة كان على اتّصال بخلايا نائمة في البقاع الغربي والشمال وصيدا، كانت قد بايعَت «دولة الخلافة» أخيراً.

ولفتَت إلى أنّ بعض عناصر هذه الشبكات وأفرادها كان يغرّد» بأسماء مستعارة على الـ«تويتر» والـ«فايس بوك»، متوعّداً لبنان والدولة اللبنانية بشيء يشبه أحداث الموصل العراقية.

المصادفة التي جعلت حاجز الجيش اللبناني يشكّ بجمعة، كشفَت هذه المخطّطات، وأعطت لبنان واللبنانيين فرصةً ليتأمّلوا بحقيقة واقعهم الجديد، وبخطورة «الهواء الأصفر» الذي بات على الحدود ويتسرّب إلى الداخل اللبناني.

عرسال حتى الآن لم تسقط بكاملها في أيدي الإرهابيين. ويمكن التعامل مع أزمتها الحاليّة بنحو أو آخر. لكنّها ستطرح على كلّ لبنان تحدّيات من نوع مختلف، وتفرض على الجميع سلوكاً سياسيّاً مختلفاً عن المسلك الذي اعتدنا عليه في السنوات الثلاث الأخيرة.

دفنُ الرأس في الرمال، وتجهيل الفاعل الذي ارتكبَ جرائم بحقّ عناصر الجيش، وتمييع الجريمة ومحاولة المساواة بين المؤسّسة العسكرية والجماعات الإرهابية المسلحة، كلّها سلوكيات لم تعُد تصبّ إلّا في خانة ضرب الاستقرار اللبناني. الجيش اللبناني كان وحيداً في المعركة. التضامن السياسي المعلَن لم يكن «حقيقيّاً» بمقدار ما قدّم الجيش من تضحيات حقيقية.

الحوارات المسرّبة من بعض الاجتماعات الرسمية و«الأهلية» تصيب أيّ لبناني بالإحباط، وتُشعِره بأنّ بعض من في سدّة الحكم والمسؤولية يتصرّف بمعايير و»عدّة الشغل» القديمة تلك التي كانت تتيح شيئاً من التحريض والشعبوية أو التمايز أو التعبير الحر عمّا يعتمل في بعض الصدور من ضيقٍ «مذهبي».

في كلّ الأزمات التي عاصرَها لبنان منذ تأسيسه، كان الجيش اللبناني «أمل الناس» في استعادةِ السلطةِ هيبتَها، والمؤسساتِ حضورَها والدولةِ فاعليتَها. حتى على صعيد التوافقات والحلول السياسية، لطالما لجأت الطبَقة السياسية لحلّ مشاكل من خلال الجيش وعلى حساب الجيش.

منذ أحداث العام 1958، إلى أحداث العام 2007 في نهر البارد، وما بينهما من تاريخ طويل مكتظّ بالنزاع على لبنان ولأجل لبنان، شكّلت المؤسسة العسكرية ملاذاً أخيراً لتظهير التوافقات السياسية، وترميم السلطة والبلد، والعودة إلى الاستتباب والاستقرار والانتظام العام.

ولأنّ الجيش اللبناني يمثّل هذا البُعد «الخلاصي» بالنسبة إلى غالبية اللبنانيين الساحقة ينبغي مصارحتُهم، والقول إن الجيش لن يكون قادراً على مواجهة مزيدٍ من المخاطر التي تنتظر لبنان إذا ظلّ الواقع السياسي بهذا السوء والتردّي.

«ليس الله حدّاداً لكي يصنع السيوف» وبالدعوات وحدَها لا ينتصر الجيش في المعركة على الإرهاب. لا بدّ من قرار سياسيّ كبير يُسقط الحُرمَ عن تسليح المؤسّسة العسكرية، ويمنع الاستثمار المذهبي في وجهها… وللكلام بقيّة متروكة لظروف أفضل…