IMLebanon

ما هي السمات الحديثة لنتائج سياسة بوتين؟

تتعاظم اليوم في روسيا وبعد ضمّ القرم وأحداث أوكرانيا والأزمة الإقتصادية الزاحفة إتجاهات وظواهر إجتماعية، ما كانت لتحدث لولا سوء إدارة السياستين الداخلية والخارجية حسب بعض المراقبين، والذين يستندون الى بروز عوامل تفكك شتى في المجتمع الروسي، تنمّ عن واقع جديد قليلاً ما يقلق النخبة الحاكمة هناك «الأوليغارشية الجديدة»، أو ما يسمى إصطلاحاً «نوفوريشي» الأغنياء الجدد.

هذه الظواهر هي الهجرة والهروب من البلاد لأسباب سياسية، تصدير الإرهاب والمرتزقة الى البلدان الأخرى وخصوصاً الدول الشقيقة، والإرتفاع الملحوظ لحالات الإنتحار.

وإذا كانت دوافع الهجرة إقتصادية وسياسية، وهي خطوة لا يقدم عليها ألاّ الشخص اليائس، فإنّها في روسيا تكتسب بعداً آخر باعتبارها تؤشر الى حجم الصراع النفسي الداخلي الذي يعيشه المواطن الروسي مع محيطه وواقعه، حيث بات يفتقد إمكانية ووسائل مجابهة هذا الواقع، ليصبح البديل عن هذا العجز الإنتحار والتخلي عن الحياة.

فوفق إحصاءات حديثة لمنظمة الصحة العالمية، تعتبر روسيا في عداد الدول التي تشهد إرتفاعاً غير مسبوق في حالات الإنتحار، وتُقدّر بنحو 300 حالة إنتحار سنوياً نسبة لعدد السكان البالغ مئة وخمسين مليوناً، وهي نسبة مرتفعة في الحسابات الدولية. أمّا أسباب ذلك فهي كمية الضخ الهائل للمعلومات والثقافة التي تحمل طابعاً عنفياً وإزدياد النزعات العدوانية في العلاقة مع القوميات الأخرى، صراع الأجيال اضافة الى إعتبارها ظاهرة شبه طبيعية منتشرة ومتأتية من التمزّق النفسي الذي يعيشه الشباب.

هكذا لم تحقق القيادة البوتينية الآمال المعقودة عليها لجهة تأمين حياة الرخاء الإقتصادي والإجتماعي والإستقرار النفسي، فإزدادت النزعة للهروب الى عالم يمكن العيش فيه بعيداً من الضغوطات، مع الإشارة إلى أنّ حالات الإنتحار تطاول الأجيال الصاعدة كما وفئات المتقاعدين. أمّا الذين يحملون شهادات علمية عالية وأوضاعهم تسمح لهم بالهروب، فهم لا ينفكون يبحثون عن تغيير نمط حياتهم خارج البلاد.

وفق دراسات سوسيولوجية مقلقة، فإنّ الهجرة المسجلة في روسيا هذه الأيام أو ما يسمى الموجة الثانية من الهجرة، أطلق عليها هجرة اليأس وفقدان الأمل من كل شيء.

ويلاحظ أنّ بين طالبي الهجرة صحافيين ومفكرين ومثقفين، لكنّ جهاز الأمن القومي وكما في العهود السابقة يحجب منح جوازات السفر للموظفين السابقين والحاليين العاملين في وزراتي الداخلية والدفاع والجهاز الفديرالي الأمني والخارجية.

في المقابل، ووفق إحصاءات الأمم المتحدة، فإنّ أكثر من أربعين ألف روسي طالبوا هيئاتها بمنحهم حق اللجوء السياسي عام 2013 ، وللمناسبة فإنّ روسيا هنا تحتل المركز الثاني عالمياً بعد سوريا، وبعض طالبي اللجوء إستقروا في أوروبا والآخرون توجهوا حتى نحو تايلاند والهند.

والمفارقة أنّ الغالبية الساحقة تتجه نحو كييف لعوامل عدة، منها: واقع الحياة المقبول نسبياً، إمكانية التحدث باللغة الروسية، كما أنّ كييف أصبحت كبيروت سابقاً ملجأً لكل المثقفين الروس المقموعين والملاحقين جراء مواقفهم، وكذا الكتّاب والأدباء. هؤلاء وفي ظروف كأوكرانيا حيث ترتفع موجة العداء للسياسة الروسية الرسمية، فإنّ هؤلاء سيتحوّلون الى معارضين نشطين.

وهذا في حد ذاته عامل حاسم في تعزيز الحرب الإعلامية والفكرية التي سيشنّها هولاء ما يقلق روسيا كثيراً، من دون إغفال أنّ أدب المهجر لعب دوراً حاسماً في المعركة ضد السلطة السوفياتية.

تلاحظ أوساط متابعة أنّ المواطنين الروس الذين يعيشون ويعملون خارج البلاد وتحسنت ظروفهم الإقتصادية يبدون رغبة شديدة بالتخلي عن جنسيتهم الأصلية، ذلك كرد فعل على سياسة بلادهم الخارجية في مسائل عدة كالأزمة الأوكرانية، العودة الى الحرب الإيديولوجية على نسق الحرب الباردة مع الغرب، على رغم وجود طبقة روسية ذاقت متعة من الحياة المخملية في الغرب.

في المقابل، فإنّ قسماً لا بأس به من الروس في داخل بلادهم يعبّرون في السر والعلن عن رغبة شديدة لديهم بترك البلاد الى أماكن أكثر أمناً وتؤمّن ظروف عيش أفضل، وهناك توجه للسفر الى أوكرانيا تحديداً، بعد أن شكّلت فكرة انضمامها الى أوروبا والسوق الأوروبية المشتركة أمراً جاذباً للشعب الروسي بعكس الموقف الرسمي.

الى ذلك كله يضاف أنّ روسيا إحتلت مكانة أيضاً لا بأس بها في تصدير المرتزقة، وهم مقاتلون يتقاضون أجراً من شركات أمن روسية تعمل بطريقة غير مباشرة لمصلحة الدولة، ومنهم من أرسل الى سوريا ضمن كتيبة خاصة مقابل أجر بثلاثة آلاف دولار، وهي كتيبة قاتلت في القصير وفي اللاذقية وطرطوس وحمص، هذا ما ظهر أيضاً في دونباس ودونيتسك وسلافيانسك في اوكرانيا، الأمر الذي هو مثار جدل بين السلطتين الحاكمتين في كلّ من موسكو وكييف.

وفي تحليل انتشار هذه الظاهرة، فإنّ المستفيد الرئيس هو السلطة الحاكمة في الكرملين ، حيث أنّ تصدير المقاتلين، ومع تعزز التوجه العام لانخراط أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي، فإنّ هذا سيشعل الشعور الوطني-القومي الامبراطوري للقوميين الروس الذين يعتبرون انخراطها في اوروبا مساساً بتاريخ عريق عمره قرون وخروج على «الروسنة»، ايضاً ومع تسليط الضوء على تنامي الصراع العرقي القومي يمكن اخفاء حجم الأزمة الاقتصادية-الاجتماعية والمشاكل الكثيرة التي انتجها الحصار الاقتصادي والعقوبات المفروضة على روسيا بسبب ضم القرم وأزمة أوكرانيا.

فتحويل أوكرانيا الى بؤرة توتر دائم تحت سيطرة مجموعات مسلحة تستخدمها روسيا عند الحاجة، ورقة ضغط في الكباش حول العالم بين روسيا والغرب.

الأمر الآخر والذي يحمل بعداً جدلياً فلسفياً بما خصّ تصدير المقاتلين، والذي أصبح شأناً استراتيجياً روسياً لا يقلّ أهمية عن الدرع الصاروخي، يكمن في أنّ استجلاب كل المقاتلين الى ساحات القتال، سيخلّص روسيا من خطر القوميين المتشددين على غرار الوضع السوري وداعش في العراق وسوريا، ويقضي على قسم كبير منهم في ساحات الوغى.

على رغم ذلك فإنّ هذا المنطق يتناسى أيضاً أنّ بعضاً منهم مثل الشيشان الأشداء التابعين لقيديروف والقوقازيين سينجون ويعودون الى موطنهم الأصلي، ويتحولون الى عناصر متمردة على روسيا نفسها في مراحل لاحقة يوم تستقر الأمور. هؤلاء هم الأكثر إمتلاكاً للخبرات القتالية، ويعتقد أن بعضهم استخدم لخطف صحافيين روس في اوكرانيا والتنكيل بهم لتسعير وتأجيج الصراع القومي، على رغم أنّ الإعلام الروسي اتهم منظمات أوكرانية قومية متطرفة بالقيام بذلك في إطار التحريض على السلطات الجديدة في كييف.