IMLebanon

مسيحيّو لبنان أسوأ نموذج لمسيحيّي الشرق

 

 

قد يكون العنوان إستفزازياً، فيُسارع البعض إلى الإنكار والإستنكار. ولكن، بالتأكيد، يحتاج معظم زعماء المسيحيين في لبنان، السياسيّين والروحيّين، إلى صدمة أكبر بكثير من مجرّد عنوان لمقال، لعلّها توقِظهم من سُبات يوشك على إنهاك المسيحيّين وإنهائهم، في لبنان وسائر المشرق.

لأنّ وضع المسيحيّين في المشرق لم يعُد ينفع معه إرتداء القفازات، يجدر الإعتراف أولاً بالحقيقة الآتية: عموماً، لم يرتقِ المسيحيون المشرقيون إلى أيّ مستوى من النضوج يسمح لهم بالتفاهم على قضاياهم المشتركة، في ظلّ لامبالاة وتمييز كياني وطبقي ومناطقي يعتري العلاقات في ما بينهم.

فمسيحيّو المذاهب الثلاثة الكبرى عدديّاً في لبنان (الموارنة والروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك)، وفي نسبٍ متفاوتة، يتعالَون إجمالاً على مسيحيّي الجوار، من أقباط وسريان وكلدان وأشوريّين وأرمن وسواهم، علماً أنّ أبناء هذه المذاهب لهم أفضال في بناء لبنان، وصناعة المجد الذي يَدَّعي الآخرون إحتكاره أحياناً. ومسيحيّو المذاهب المشرقية القليلة العدد في لبنان، لطالما تقدّموا إلى المتاريس الأولى، عندما يُدَقُّ النفير.

وهناك أيضاً نظرات متعالية تقليدياً، حتى بين أبناء الكنائس الثلاث: الموارنة لهم ما يتعالون به على سواهم، وكلٌّ من الروم الأرثوذكس والروم الكاثوليك لهم أيضاً. وأحياناً، يرتدي ذلك طابعاً مناطقياً، ضمن أبناء المذهب الواحد.

وما دام مفتوحاً قول الأشياء كما هي: ما صحّة ما يتردَّد عن أنّ قادة الموارنة أوقفوا حدود «لبنان الكبير» شمالاً عند النهر، لأنّ شطبة القلم لو توغَّلت بضع كيلومترات في وادي النصارى، لإختلفت المعادلات العددية لمصلحة الروم الأرثوذكس في الكيان الوليد؟

ولكن، ثمة متغيّرات بدأت تفرزها أحداث «الربيع العربي». فقد إهتزّت المعادلة التقليدية التي كانت تقوم على كون الأرثوذكس أكثر توقاً إلى الإمتداد المشرقي، والموارنة أكثر تمسّكاً بالأولوية اللبنانية. وفي العقود الأخيرة، نمَت الإعتبارات الطائفية والمذهبية والعرقية على حساب الكيانات التي أوجدتها سايكس- بيكو.

وتراجعت النظرة الكيانية والطبقية التي نشأت أيضاً بين أبناء الطوائف الإسلامية الشيعية والسنّية في بلدان المشرق، على مدى مئة عام، والتي إختلطت فيها العوامل الدينية والإجتماعية، حيث السنَّة أكثر «مدينيةً» من الشيعة، والشيعة أكثر ريفية. وبات يتقدّم الإنتماء المذهبي «الثابت»، على حساب الإنتماء الكياني «المتحوِّل».

اليوم، ليس مطروحاً على مسيحيّي لبنان: ماذا ستقدِّمون لمسيحيّي المشرق؟ وماذا تستطيعون أن تقدِّموا أساساً، ما عدا الصلاة للحاضر… وصلاة الغائب؟

المطروح هو: ماذا يفعل مسيحيّو لبنان لأنفسهم، بل بأنفسهم؟ وهل ما يفعلونه جدير بكونهم مجموعة تُدرك مصيرها وتُمسِك به، وكفيل بالحفاظ على إرثٍ صنعه عرق الأجداد ودم الشهداء والقديسين، أم أنّ الأجيال المسيحية الحالية في لبنان بدَّدت هذا الإرث في زواريب المكاسب الصغيرة، كما يُبدِّد الأبناء والأحفاد الجاحدون مالاً صنعه لهم أباؤهم وأجدادهم بالتعب والتضحيات؟

ما يمكن أن يقدّمه مسيحيّو لبنان إلى مسيحيّي المشرق هو في الدرجة الأولى: النموذج. أي تماسكهم ووعيُهم إلى أهمية لبنان، وأهميّة وجودهم في لبنان. فهذه هي الركيزة الحقيقية، الوحيدة والنهائية، لبقاء مسيحيّي لبنان والمشرق جميعاً.

وليس لأجيال المسيحيّين اللبنانيين اليوم أن تتباهى على سواها من مسيحيّي المشرق. فالميزة التي ورثتها الأجيال هنا، أي القدرة على الصمود، لم تكن متاحة، ولن تكون، لسواها في أيّ منطقة مشرقية أخرى. فالمعطيات الجيوـ سياسية الموجودة هنا، لو توافرت، لربما كان صمودهم أقوى.

وعلى العكس، ما تقدّمه الأجيال الحالية من المسيحيين اللبنانيين هو النموذج المقلق إلى مسيحيّي المشرق. فالتنافر من أجل الصغائر، وإضاعة مقوّمات القوة المسيحية، بدءاً برئاسة الجمهورية، يُثير القلق. وعلى مسيحيّي لبنان التنبّه إلى مخاطر زوالهم، كركيزة للحفاظ على المسيحيّين الآخرين في المشرق.

فهل يستعدُّ مسيحيّو لبنان لمقاومة الخضّات المصيرية التي تضربهم اليوم، وتضرب كل المجموعات المشرقية؟ أم أنّ زعماءهم السياسيّين والروحيين- بغالبيتهم- لا يملكون الوقت من أجل التعمُّق في الإستراتيجيا، ولا يفكِّرون أبعد من مسافة الصالونات المليئة بالمبخِّرين والمطبِّلين والمزمِّرين؟