IMLebanon

من أجل جمهورية جديدة

منذ ستّ وعشرين سنة (25/4/1988)، قبل نهاية ولاية رئيس الجمهورية بسبعة أشهر تقريباً، كانت تلوحُ في الأُفق نُذُر الإجهاز على الجمهوريّة، إطاحة المؤسّسات، ضرب وحدتها وتقويض هيكليّتها، بسبب تخبّط الحكم في الأخطاء وصراع المصالح والسلطة، وتقاطع المخططات الخارجية مع الأهواء الشخصية والمطامع الفئويّة. وكان المجلس النيابي المنتخب سنة 1972 قد فقد اثنين وعشرين من أعضائه التسعة والتسعين… يومذاك تملّكنا شعور بعظم مسؤوليةِ الحفاظ على مقوّمات الجمهورية، بدءاً بتأمين انتخاب رئيس جديد، وكدنا نفلح، قبل نهاية الولاية بخمسة وثلاثين يوماً (18 آب 1988) لولا منعنا بالقوّة من الوصول الى المجلس… وكانت تلك الخطيئة المميتة التي ما زالت تتفاعل، والجميع مغرقٌ في التنظير والمباهلة، فيما الأسوأ يتكرّر، من دون أن يلوح موعِدُ خلاص.

من محفوظاتي، أُخرج اليوم مقالاً لم يُنْشَرْ في حينه، ثم تضمّنه كتابي «في سبيل لبنان» الصادر سنة 1996- صفحة 721. أُهديه الى «الجمهورية»، عَلّه يذكّر… فينفع!

أشياءُ كثيرةٌ في لبنانَ، باتت تحتاجُ الى إِعادةِ اعتبارٍ، بل الى عملية إنقاذٍ كاملة.

من ذلك، وبالأولوية المطلَقة، فكرةُ الدولة، والوطن، والمؤسسات.

فالبِناءُ اللبنانيُّ مهتزٌّ، ومزعزعٌ، لدرجة تؤذِنُ بالسقوطِ، او على الأقل، تُنذِرُ به.

فالسائدُ اليومَ، لدى كلِّ مَن يتحسَّسُ فداحةِ الخطر، هو الشعور بالمسؤولية عن تنظيم العمل الوطنيِّ، لمواجهة التطورات. ويعنينا مباشرة ما يُسمَّى بالإستحقاق الدُستوريِّ، الذي سَيَحينُ موعده ابتداءً من الثالث والعشرين من تموز 1988، اي بعد أَقلِّ مِنْ ثلاثة أَشهر، والمقصودُ به انتخابُ رئيسٍ جديدٍ للجمهورية، ضماناً لاستمرار الكيان المُوَحَّد للدولةِ، في الشَكلِ، شرطاً لبقاء الدولة، في الأساس.

فالمعاناة التي استهلكتِ البلادَ، شعباً وارضاً، على مدى عهود، تفرضُ على ايِّ لبناني مخلص تعبِئةَ جميع الطاقاتِ لوضع حدٍّ لها.

مِنَ الواضحِ أنَّ اهمَّ ما في الانتخاباتِ هو أنْ تجرى، في موعدها، وضمنَ أصولِها البرلمانيَّة الديموقراطية، لأنَّ مصير الجمهورية مطروحٌ برُمَّته، ولا تُقتصَرُ المسألة على شخص أو فئةٍ.

من هنا الإِلتحامُ الجذريُّ بينَ عملية الانتخاب وشخص الرئيس، كما بينَ الرئيس والدولة.

أي إِنَّ كيفيَّةَ إِجراء الانتخابات تُحدِّد نوعيَّةَ الرئيس، وشخصيَّة الرئيس تُحَدِّدُ ملامِح المستقبل. ويرتدي دورُ المجلس النيابيِّ في هذه المرحلة اهميَّة تاريخيّة، استثنائيَّة وبالِغة الخصوصيَّة.

لقد سمعنا الكثيرَ عن «صناعةِ الرؤساء» وكيف سيصنعون للبنان رئيساً، كيفَ سَيوصون عليه، وبأيّ قالَب سَيَصُبُّونهُ. سمعنا عن «لوبي» في هذه العاصمةِ او تلك، وعن «تلزيم» معركة هذا او ذاك منَ المرشحينَ، لشركة إِعلاناتٍ، او مؤسسة دعايةٍ، او رُسُوِّها على أحد سماسرة البورصة، واختصاصيّي التسعير.

شاهدنا الكثير من الفولكلور المزري بالرئاسة والرؤساء، والمُحِطّ قدرَ البلادِ والعبادِ، ومن المؤسف أنّ الصورة المرتسمة في الأذهان عن صناعة الرؤساء في لبنان، هي أنّ الرئيسَ يأتي إمّا بالعَمالة والتَسكُّع، وإمّا بالرَشوة والتمَلُّق، وأنّ العبرة هي لكلمات السرّ التي يهمس بها السفراء، والمعتمدون، او المفوّضون السامون، وللصناديق التي تفتح، والاوراق التي تُرَشُّ…

… وينسى المرشحونَ، المتهافتون على الأعتاب، المتدافعون بالمناكب، المكتظّون صفوفاً أَمامَ أبواب السفارات، المستجدونَ المواعيد، كما ينسى المتفرِّجونَ جميعاً، هواةُ برامج الترفيه والتفكهة، الممزوجة بالمفاجآت وحَبس الأنفاس، أحكامَ الدُستور، والهيئة الانتخابيَّة، والنواب السبعةَ والسبعين الباقين في المجلس (من أَصلِ تسعة وتسعين)، الذين سيَضعون الأوراق في صندوقة الاقتراع، وفقاً لتفاصيل محدَّدةً بوضوح، في النظام الداخليّ.

… ويروِّجُ حكواتية مرحلة الإنحطاطِ التي نعيش، أنَّ النواب ليسوا إلّا أداةً للإنتخابات، وما هم بالناخبين الفعليينَ، وأنَّ ثمةَ ناخبينَ آخرين، معلومون، وإِنْ كانوا غيرَ منظورين، وأنَّ ثمَّةَ صندوق اقتراعٍ آخر، يدورُ قبلَ انعقاد جلسة الإِنتخاب، وهو الذي يُقرِّر النتيجةَ، ويُمليها على مَن تبقّى من النواب… وأَنَّ هولاء النواب – يُكْمِلُ الحكواتية – همُ بينَ خائفٍ من تهويل، وخاضع لضغطٍ، وراغب في مصلحة، ومرتهَنٍ لمشيئة، وسائرٍ في ركابٍ… ومُسْتلحِقٍ نفسَه، لئلا يفوتهُ الدخولُ، قبلَ وَصْدِ الأَبوابِ!

هكذا يتكوَّنُ لدى الشعب الطيِّب، اقتناعٌ باستحالةِ الخَلاص، وتتنامى في وجدانِه نقمة على المجلس، ويخالِجهُ يأسٌ من النوّاب، هؤلاء الذين يُقال فيهم إِنَّهم يُجَدِّدون لأنفسهم، ولاية إثرَ ولاية، منذُ ستَّ عشرة سنة، ويتساقطون، الواحد بعد الآخر، وقد توارى أَفضَلهم، وأكفأُهم، وأعرَقُهم زعامة، وأكثرُهم تمثيلاً، وتشتَّتوا أيدي سبأ، وتهجَّروا، وتفجَّرَت سياراتُهم ومنازِلُهم، ولم يبقَ منهم في الساح إلّا قلَّةٌ، تُحاوِرُ وتداوِرُ، تُسايرُ وتُرائي، تَحضرُ المآتم والأَعراس، تُرَنْدِحُ في القداديس، وتخطب، او تصفّق، في مهرجانات الاربعين، فلا همّ في العير، ولا همّ في النفيرِ، ومن الشهادات لا يُحسنون غير الزور، ومن المواقف لا يملكون غير الموافقة، والصَمْت، أو الوجهنة والتبخير!

… ولأنَّ الإِعلامَ باتَ مسخّراً، مقهوراً، والكلمةَ مكبّلة مأجورة، وأجهزة السمع والبصر مصادرة، موجهة، ولأنّ المسؤولين الاسميّين في تصنيف الدولة الشرعية هم الناكلون عن موجبها، فإِنَّ الجَهالة تُعَمَّم، والكذبَ يُرَوَّجُ، وتتعاظم الهوَّة بينَ الناس، تعصُّباً وتشنُّجاً، وانفصامَ شخصية، وَتسودُ شُرعة الغاب، ويتردّى المجتمع في وِهدةِ العذاب!

حيالَ هذا الواقع، يعنينا أنْ نُعلن موقفاً ثابتاً: إنَّ الناخب الأوحد هو المجلس، وأنَّ النواب هم المقترعون، دون سواهم، وأنّ سلاسل العالم كلَّها لا يُمكن أن تُقيِّد رجلاً حُرّاً، وأَنَّ ضغوط الكون بأسره، لا يمكن أن تسحقَ روحاً مؤمنة، وأنَّ عوامل الطبيعة وعناصرَها أعجَز مِنْ أن تُبدِّل قراراً واعياً مُحقّاً، يتَّخذُه إنسانٌ شريف.

إنَّ الشعب اللبنانيَّ يُراهنُ على التغيير، وسيحقِّقُ المجلسُ النيابي أمنِية الأجيال، التي وُلدَت في الألم والضيق، في النَزفِ والتشريد، كابَدَت، وقاسَت، عانَت، وبُحَّ صوتُها في المُطالبةِ بالخَلاص.

إنَّها دعوة التجَمُّع المتراصِّ، نوجِّهُها الى المجلس الذي ظلّ، في أحلَكِ الساعات، وفياً للشعب الذي انتخبَهُ، ولو تقادَمَ عهدُهُ، أَميناً على الرسالةِ التي أَناطَها به الدُستور، ولن يَخْذُلَ الوطن.

في لحظة الحقيقة، عند الاستحقاق، سيكون المجلس حاضراً للشهادة، لأَنَّه موعدُهُ معَ التاريخ، وبداية العبور من الماضي الى المستقبل. إِنَّهُ يومُ ولادةِ الجمهوريةِ الجديدة.