لم يعد من السهل على لبنان أن ينأى بنفسه عن حروب المنطقة، في ظل الانقسامات السياسية المتفاقمة، والتي أصبحت تُهدّد البنية الأساسية للدولة والنظام، في أجواء من اللامبالاة والأنانية المفرطة، التي تهيمن على القيادات السياسية!
ويبدو أن التعطيل لن يقتصر على الانتخابات الرئاسية، وما خلفه من شغور خطير في المنصب الأوّل للجمهورية، بل يسعى البعض إلى تمديد سياسة التعطيل إلى المؤسسات الدستورية الأخرى، بدءاً من مجلس النواب، وانتهاءً بمجلس الوزراء.
كما أن محاولات تعطيل مفاعيل الخطط الأمنية في طرابلس والبقاع، ناشطة على أكثر من صعيد، وكأن الهدف هو زج هذا البلد، المرتبك أصلاً، في خضم الصراعات المشتعلة في الإقليم، وتحويله، مرّة أخرى، إلى ساحة لتصفية حسابات الأطراف الخارجية على أرضه!
ورغم الجهود المضنية التي تبذلها الحكومة ورئيسها، للحفاظ على ما تبقى من روابط التوافق بين الأطراف السياسية، الممثلة في وزارة «المصلحة الوطنية»، فإن أعمال مجلس الوزراء مهدّدة بالتوقف تحت ضغط تناقضات المصالح بين الأفرقاء الحزبيين، وتزايد هوّة الخلافات والمحاصصات في الملفات الخدماتية، وخاصة التعيينات الجامعية، وما يواكبها من سجالات بتراء حول سلسلة الرتب والرواتب، وصولاً إلى أزمة الكهرباء المزمنة، وأزمة المياه، التي من المتوقع أن تكون أشد وطأة، وأكثر تعقيداً من أزمة الكهرباء!
الطبقة السياسية تبدو في مشاهد كثيرة، وكأنها متلهية بالقشور، ولاهثة وراء المغانم الزائفة، في حين أن الأخطار المحدقة بالبلاد، تضاعف خوف العباد من الرياح النارية، التي أشعلت دول الجوار، ووصل لهيبها إلى غزة، وبرزت محاولات عدّة لجرّها من غزة إلى الجنوب اللبناني، عبر سلسلة عمليات إطلاق الصواريخ باتجاه المستعمرات الإسرائيلية، من عدّة مواقع في الجنوب.
كما أن بعض تصرفات جهات معنية في الدولة في ملفات أمنية وداخلية حسّاسة، مثل التساهل مع فريق، والتشدّد في الملاحقة والتوقيفات مع أفرقاء آخرين، قد أعاد التوتر إلى الشارع، ودفع بأهالي الموقوفين الشاعرين بالغبن والمظلومية، للتظاهر والاحتجاج على أسلوب التمييز غير المحق، بين طرفي القضية الواحدة.
وخطورة هذه الظاهرة أن تطوراتها قد لا تقف عند مجرّد التعبير عن غضب أهالي المغبونين من معاملة الدولة وأجهزتها غير العادلة، حيث ثمة فريق ثالث، أو بالأحرى هناك عدد من التنظيمات الخارجية المتشددة، تتربص بمثل هذه المناخات، وتجد فيها الفرص المناسبة للتسلل إلى الشارع اللبناني، والعمل على تحقيق أهدافها المريبة، عبر استغلال مشاعر الغضب والإحباط ، وتجنيد الشباب اليائس في مخططات لضرب الاستقرار الداخلي، تحت شعارات وهمية، لا ناقة للشباب فيها ولا جمل!
إن المضاعفات الخطيرة لهذه المعطيات على الأمن، بل وعلى السلم الأهلي، تفرض على الجميع، مسؤولين وسياسيين، التعامل مع وقائعها بمنتهى الجدّية والحسم، والضرب بيد من حديد، على كل من يحاول أن يوظف تدهور الوضع الأمني لتحقيق مآرب شخصية أو فئوية، وللاستفادة من دروس وعِبَر مرحلة الاضطرابات الخبيثة التي استنزفت أمن واستقرار الفيحاء، على مدى السنوات الثلاث الأخيرة.
لا يكفي القول إن لا بيئة حاضنة للإرهاب ومنظماته في لبنان، وخاصة في الشمال، لأن استمرار أساليب الضغط ، والإصرار على اتباع سياسة المكيالين من قبل السلطات والأجهزة المعنية، من شأنه أن يدفع الشباب للارتماء في أحضان التنظيمات، التي قد يخيل لهؤلاء الشباب اليائسين، أنها قادرة على تحقيق الحماية لهم، من تصرفات السلطة غير العادلة.
أما عمليات إطلاق الصواريخ العشوائية من جنوب لبنان، فتعبّر عن قصور في ذهنية المخططين لها، لأنهم لم يدركوا، أولاً، أن لا استعداد لبناني، وخاصة من حزب الله، لفتح جبهة حرب مع العدو عبر الحدود الجنوبية، ولأنهم ثانياً، لم يستوعبوا بعد أهمية المتغيّرات التي أحدثتها صواريخ غزة في تغيير قواعد اللعبة، وتعديل معادلة الحرب التي اعتادت عليها الحكومات الإسرائيلية في المراحل الماضية.
صواريخ «القسام» التي أمطرت المدن الإسرائيلية، وأرعبت الإسرائيليين في مخابئهم، وأربكت حركة الإنتاج اليومية، وهددت مطار تل أبيب بالتوقف، تجاوزت ببعدها الاستراتيجي، وبأشواط بعيدة تكتيكات الصواريخ القاصرة عن بلوغ أهدافها انطلاقاً من الجنوب اللبناني.
ومهما بلغ تعداد الصواريخ البدائية المنطلقة من القرى الجنوبية، فلن تؤدي إلى تغيير الواقع الحالي عبر الخط الأزرق، طالما لم يلاحظ العدو الإسرائيلي، استعدادات عملانية من حزب الله، تستهدف مواقعه، وذلك على غرار عملية خطف الجنديين الإسرائيليين في تموز 2006، والتي أدّت إلى اندلاع الحرب المدمرة ضد لبنان في ذلك العام.
الانتصار لغزة الباسلة لا يكون بتعريض جبهات عربية أخرى لمخاطر الاعتداءات الإسرائيلية، ليست ثمة جهوزية كافية لمواجهتها وردعها.