IMLebanon

لقاء فوق السحاب مع الإمام الصدر حدثني عن محاولة إغتياله  

 

كانت الحرب مشتعلة الأوار، وكان الوحش الكامن فينا قد خرج من طوايانا، ومن بين الثياب الأنيقة والكلام المنمّق، ليفلت في شوارع الغابة الكبيرة، فيقتل ويدمّر، ويختطف، ويحاسب على الهوية. ويقصف عشوائياً.

وانطلقت بنا الطائرة من مطار بيروت (في إحدى المرّات القليلة التي كان المطار غير مقفل) الى مطار شارل ديغول في ضاحية العاصمة الفرنسية، وحدث أن كان مقعدي الى اليسار، بينما في الإمتداد ذاته، الى اليمين، كان مقعد سماحة الإمام السيّد موسى وقربه السيّدة حرمه.

كان الإمام، في تلك المرحلة (في السنتين الأوليين من الحرب العبثية) نجماً ساطعاً في سماء لبنان… كان الرجل الذي دهمتنا الحرب فيما هو محط الأنظار وموضع الإجماع عليه من الجهات السياسية كلها، ومن الأطياف الوطنية جمعاء.

الفاصل بيننا لم يكن سوى ممر ضيّق، ما سمح لنا بتبادل أطراف الحديث طوال الرحلة بين العاصمتين اللبنانية والفرنسية.

كنت في مهمّة صحافية، وكان سماحته في وضع صحي إقتضى إنتقاله الى أحد  المستشفيات الفرنسيّة. أما السيدة حرمه فكانت في رفقته للعناية به.

وأذنت لنفسي، أن أسأل: وهل ثمة ضرورة لعناية خارج الضرورات الطبية؟

وأجاب سماحته: إنني أعاني هبوطاً حاداً في ضغط الدم فقد هبط ضغطي العالي الى ما بين  5 و 6 !

وهالني ما سمعت، ولكنني لم ألاحظ عليه أي وهنٍ أو إستسلام. فبدا وكأنّ وضعه الصحي طبيعي. كان متماسكاً.

كانت السيّدة حرمه تجلس الى يمينه قرب النافذة وفي يدها نسخة من القرآن الكريم حجبت بها ما يظهر من وجهها خارج إطار الحجاب خصوصاً عندما كنّا نتبادل الحديث. ولما أدرك أنها نزيلة الحجابين قال لها بلهجة لم تخل من نبرة غير عادية: كفى يا امرأة… أنزلي يديك… وما زلت أذكر انها إنصاعت من دون أن  تقول أي كلمة… وتابعت قراءة الآيات البيّنات، فيما تابعنا حوارنا.

قبل زمن قصير من هذه الرحلة حدث إنفجار كبير في مجموعة من «أفواج المقاومة» (أمل) في منطقة بعلبك خلال مناورة أو تدريبات… وسقط ضحايا عديدون. واغتنمت مناسبة اللقاء، على الطائرة، فقلت لسماحته:

هل تأذن سيّدي بأن أسألك عن طبيعة الإنفجار وهل هو قضاء وقدر أو ماذا؟

وأجابني جازماً: كانت محاولة لاغتيالي.

ولـمّا بدت على ملامحي الدهشة، أضاف يقول: كان يفترض أن أتوجه الى حيث وقع الإنفجار ساعة حصوله، إلا أنّ العناية الإلهية شاءت أن أصل متأخراً بضع دقائق.

وختم في هذه النقطة: كان موعد لقائي الاخوة من شباب «الأفواج» عند ساعة الإنفجار تماماً… ولقد إكتشفنا بعض الخيوط، والتحقيق جار.

كنت أعرف سماحته كما يعرفه اللبنانيون عموماً، وكنت أتابع خطواته متابعة دقيقة… فقد جاءنا سماحة الإمام السيّد موسى الصدر من عالم آخر: في زمن الحرب تحدث بالسلام. في زمن الهيجان تحدث بالهدوء. في زمن الإستسلام للأمر الإسرائيلي الواقع تحدث بالمقاومة. في زمن العصبيات الطائفية كان ضيفاً في الكنائس (…).

وبعد لقاء الساعات الثلاث (يومذاك) بين بيروت وباريس، أدركت كيف يكون الرجال استثنائيين وكباراً ليس في القامة وحسب (اذ كان عملاقاً) إنما كذلك في الفكر الإنساني الشمولي إنطلاقاً من «قبول الآخر».

يا سيدي كم يفتقدك لبنان.